أوراق سعدالله بركات.. سطرّها الحنين
مريم كدر
الأديب الحقيقي والمبدع هو الذي تذوب أناه الفردية وتندمج بذات الجماعة، حتى تتماهى مواجعه مع مواجع أهلٍ ووطن، فيصوغها حنيناً تحمله الكلمات، وتنوء بثقله الحروف.
من يقرأ كتاب “أوراق من وجع الغربة”، للإعلامي سعدالله بركات، تطالعه صفحات كل كلمة من أسطرها تقطر شوقاً إلى أهل وأحبة وديار، و”على جناح الشوق” هذا يحمل “صدده” التي لم يرتو منها “أيقونة بين الضلوع” (ص 17).
فوجعه يشتد على ما خلفه اجتياح الإرهابيين للبلدة من ضحايا ودمار، وهي التي كانت منارة علم وإشعاع فكري لقرى الجوار، سلاحها الحب والكلمة وغصن زيتون، لكنه وجع عام قبل فرح التحرير، اختزله بـ”حكاية صدد.. حكاية وطن” (ص 38).
لم يشأ الكاتب تقليب مواجع أهل ومغتربين، ولكن حين تزداد حدة مشاعره تراه يجلّيها بكلمات بليغة تخال أن كلّ حرفٍ من حروفها جرح نازف يبكي نيابةً عن صاحبه، وما أبدع قوله: “ما كتبت لأنكأ جراحاً، ولا لأذرف دمعةً، وإن كانت بينكم ومع القرّاء مجبورة الخاطر” (ص13)، وتعود أولى أوراقه إلى أول زيارة عبر المحيط وفراق 3 أحبة عام 2005 “يومها بدأت غربتي” (ص 31)، أي قبل اغترابه بسنوات.
والكتاب الصادر حديثاً عن دار المقتبس في دمشق وبيروت، يطالعنا على مدى خمسٍ وتسعين صفحة مطبوعة بشكل أنيق، يلفتك غلافه الجميل الذي تزينه ريشة الفنان الصددي عطاالله عبد اللطيف، وصورةٍ لمنزلٍ طيني يبدو كأنه يطلّ عليك من شرفات الماضي، حاملاً عبق التاريخ ودفء حب وحنين.
كم يدهشك الكتاب منذ عتباته الأولى! إذ يستوقفك إهداء مميز، لم يكتف الكاتب بتوجيهه إلى بلدة صدد التي غادرها، ولم تغادره، و”ما تذكرها إلا وسبقته دموع الغربة”، بل بعبارةً مبتكرة هي على إيجازها شديدة الإيحاء، وتحمل دفقة شعورية كبيرة، وكثافة جمالية نادرة، حيث قال “إلى كل آهٍ وحنين لوطن” (ص5).
وبعبارات دلالية، قدم لأوراق سعدالله، الدكتور جورج جبور: “ينتابني حرج محبّب، كلّما سألني زميل قلم كتابة مقدمة لمخطوط يودّ نشره، منذ الصفحات الأولى، بل منذ الأسطر الأولى لأوراق الإعلامي سعد الله بركات، تلاشى الحرج..
المفاجأة أيضاً كانت لدى قراءتي الأوراق، وجدتها تنبض بنفحات وجدانية، تقارب الحسّ الشعري، وقد عبّر عنها بلغة صافية صادقة [كعصفور يرنو إلى عشّه يشدّني الحنين إليك يا شام].. وهو يختزل ألمه من وجعين: جرح الوطن وغصة الغربة” (ص 8).
مهّد الكاتب لأوراق غربته بالعودة إلى بدايات تلك الغربة، عندما شدّ مبكراً رحاله مبتعداً عن صدد، تدفعه رغبة ملحّة لطلب العلم والعمل، فيبدو لنا أنموذجاً يحلّق في أجواء النجاح، بأجنحة من جدّ مثابر.
وقد أتى سعيه ثماراً مباركة، إذ حصل -مع العمل- على إجازتين جامعيتين في الصحافة والأدب العربي، وعلى دبلوم في التأهيل التربوي، وحصيلة تجربة غنيّة في مهنتي المتاعب، التعليم والإعلام، وقد شغل مهاماً عدة، منها مدير أخبار الفضائية، ومدير المراكز الإذاعية والتلفزيونية في سورية، فضلاً عن كتاباته في الصحف والمجلات والمواقع العربية والاغترابية.
ولعلّ ما يتصدّر أوراق سعدالله، أو في ثناياها، من مقتبسات شعرية ونثرية عن الغربة لمشاهير الأدباء (مثل جلال الدين الرومي، ومحمود درويش، و..) يشي بحرفية الكاتب وقدرته على الاستشهاد البارع، وبسمة معرفيّة مفيدة للقراء.
وحين نغوص في ثنايا الكتاب نجد أنفسنا أمام كاتب متمكن، ينثر نصوصاً رفيعة المستوى فنياً، محمولة على مواقف وجدانية وإنسانية، ويشكل كل نصٍ منها وحدة جمالية متماسكة، تتجلى فيها براعة الأديب، وقدرته على التكثيف والإيجاز. وما يلفت النظر أنّ وجدانيات الكاتب تنوعت بين نثر سلس، أو على وقع تفعيلة وقافية، لكن محاولته الوحيدة في الشعر العمودي “من دمشق الشام جاءنا الرسول هالة القدس على جانبيه تميل” (ص 52)، تنمّ عن حسّ شعري وفهم عروضي، في ورقة من مجموعة متناسقة تزين جيد أوراقه، بعذب الكلم ورقة المشاعر.
والملاحظ في أوراق الأديب عنايته بالجانب الدلالي، حيث كان لكل لفظة أو مفهوم دلالته العميقة، تحفر عميقاً في الذوق والوجدان، فهو لم يستخدم لفظة الوطن استخداماً مجرداً بل ربطه بالمنزل، وبالوالدة التي تنوء تحت ثقل سنواتها التسعين، وقد أوجعه فراقها، وأضناه بدايةً عندما قذفته رياح الغربة بعيداً عنها، ثم عندما رحلت وأخاه وأصدقاء خلال أيام، وعن وداعها الأخير يقول: “ما أقسى أن يغلق باب التمني، ليغدو نافذة تتقاذفها رياح العمر، ولا قدرة لغير الله على التحكم بها” (ص 19).. و”بلا وداع رحلوا..” (ص 65).
تراه يربط بإحكام وجداني، أيضاً، بين العام (الوطن) والخاص، البلدة التي “تلفحك بغبار البادية فتزداد اطمئناناً” (ص 32)، و”أحنّ إليك.. وسلام عليك” (ص 43 و45)، كما بعرائش العنب والأصدقاء والأحبة، أما حين يبلغه خبر عن فقد عزيزٍ، فيبادر ليخصّ بعض أوراقه بنكهة الوفاء، لأصدقاء وأنسباء أو روّاد ارتحلوا إلى عوالم الملكوت، من صدد وغيرها، ولاسيما “علي الصيوان.. الذي أنهكه جرح الوطن” (ص 76).
وأمّا الحكاية الأجمل فحديثه عن اللهفة ومشاعر الغبطة المشتركة، مع مفاجأة التعرّف على عائلة عمه حنا اصطيف (الأخ غير الشقيق لوالده) المهاجر مطالع القرن الماضي، بعد طول انقطاع تواصل منذ وفاة الأخوين قبل عقود، وما زخرت به من انفعالات توادد صاغها بلغة عذبة، عكست مشاعر الحنين إلى الجذور، وفرح الأحفاد من وراء البحار. ولعلّ ذلك التعرّف والتواصل ما خفّف عنه لوعة غربة ما كانت بالحسبان.
واللافت أنّ أوراق سعدالله، هذه، جاءت بأسلوب وتعبير جديد، عبر يراعه الذي صاغ لواعج الحنين، خواطرَ وأشعاراً موحية، كثيفة المعاني، مفتوحة الآفاق، وزاخرة الدفقات الشعورية النبيلة.