أين اليسار المناهض للحرب؟
سمر سامي السمارة
في 15 شباط عام 2003، نزل ما يقرب من 14 مليون شخص إلى شوارع 800 مدينة حول العالم، معارضين الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق.
كان خروج هولاء بمثابة استجابة استباقية للحرب التي أطلقتها إدارة بوش، وبحسب موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، كانت هذه الاحتجاجات هي الأضخم في تاريخ البشرية، ومع ذلك كان احتجاج عام 2003 أيضاً بمثابة أغنية الوداع، فالحركة التي أدّت إلى ظهوره -أي اليسار المناهض للحرب- لم تعد موجودة الآن!.
من المؤكد أنه بعد عقدين من الزمان، وخاصةً مع استمرار صقور الولايات المتحدة بالدفع نحو تصعيد لا هوادة فيه ضد روسيا، وتمسّك القادة الأوروبيين بخط واشنطن، فضلاً عن عدم وجود حركة كبيرة من اليسار لتوجيه المعارضة، وعدم وجود شخصيات قيادية مناهضة للحرب يمكن مقارنتها في مكانتها بأمثال رئيس أساقفة جنوب أفريقيا السابق، ديزموند توتو، أصبحت الجماعات القديمة المناهضة للحرب، مثل “تحالف الاستجابة لوقف الحروب وإنهاء العنصرية”، إما صامتة أو تكافح من أجل أن يُسمع صوتها.
دعا أكثر من عشرين عضواً من الديمقراطيين التقدميين في مجلس النواب الأمريكي مؤخراً إلى الدبلوماسية، لكن من المؤكد، أن اليساريين المناهضين للحرب أمثال السناتور بيرني ساندرز وفريقه سيصابون بخيبة أمل، حيث صوت عدد من الاشتراكيين المنتخبين في الكابيتول هيل بـ”نعم” على حزم المساعدات العسكرية الضخمة لأوكرانيا.
يُظهر واقع الحال، أن مرحلة ما بعد 11 أيلول المؤيدة للحرب هي التي أصبحت سائدة، فبعد فترة وجيزة من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تمّ نقل نفس الثنائيات الأخلاقية المبسطة التي تم استخدامها للمطالبة بالطاعة لنظام كوفيد، إلى الحرب، وفجأة أصبح التقدميون أكثر القوميين حماسة واستعداداً لتجاهل حتى أكثر الجوانب البغيضة للقومية الأوكرانية. في الوقت نفسه، أصبح مسرح الشوارع الذي كان سمة مميزة للتحريض اليساري المناهض للحرب، يُستخدم الآن لتعزيز مناطق حظر الطيران.
هل كان اليساريون دائماً على هذا النحو من ضعف التمييز لمزاعم الناتو والمجمع العسكري الصناعي؟ هل كانت أوائل الحقبة التالية للحادي عشر من أيلول بمثابة هلوسة كبرى؟ ما الذي تغيّر؟.
للسخرية، كان الجواب الذي قدّمه المدافعون عن الوضع الحالي أن أي تغيير لم يطرأ على الإطلاق، وبحسب هؤلاء المدافعين كان اليسار على صواب في معارضة حروب أمريكا غير المبررة بعد 11 أيلول، تماماً كما كان على صواب في معارضة حرب الولايات المتحدة ضد روسيا اليوم.
يرى مراقبون أنه كان بإمكان التقدميين “إدانة” العملية الروسية في أوكرانيا دون الاشتراك بدعم حزم المساعدات العسكرية الضخمة التي يتبناه الصقور في واشنطن ولندن. ومع ذلك، هذا هو بالضبط ما اشترك به الكثير من اليساريين لجهة إغراق أوروبا بالأسلحة، ومحاربة موسكو حتى آخر أوكراني، والتفكير في حرب أخرى لا نهاية لها، والتفكير بإلحاق “هزيمة استراتيجية” بالروس، مع إمكانية حدوث مواجهة نووية، متناسين أن كل هذا يتعارض مع المبدأ التقدمي المناهض للإمبريالية والعسكرة.
في الحقيقة، يُعزى هذا التحول إلى تغيّر طبيعة الحرب الأمريكية والغربية. وعلى سبيل المثال، في كتابه الجديد الذي نُشر العام الماضي “الرفق بالحيوان”، وثق أستاذ القانون في كلية “ييل”، صامويل موين، كيف تمكنت الولايات المتحدة، من خلال السعي إلى جعل الحرب تدخل نطاق المعايير الليبرالية، من شنّ المزيد من الحروب بضمير نظيف. بالإضافة إلى هذه الحقيقة، يمكن أن نضيف التحول نحو الحروب بالوكالة التي يخوضها العملاء والمرتزقة الأجانب بدلاً من الأمريكيين، الأمر الذي جعل الدعوة إلى التصعيد أسهل من أي وقت مضى دون الشعور بالانزعاج المفرط من فكرة الأيدي غير النظيفة. فضلاً عن “إعادة تصنيف” القوى غير الغربية، مثل روسيا والصين، كقوى رجعية، بات لا بدّ من القضاء عليها من قبل القوة الأمريكية والغربية. بما معناه أن كلّ ما تبقى من اليسار قد انتهى الآن.