الولايات المتحدة وإستراتيجية دبلوماسية المدفع
ريا خوري
لم تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن استخدام استراتيجيتها الهجومية للإبقاء على مكانتها الدولية كقطب واحد في العالم، على الرغم من حالة التراجع والانكفاء وحالات النكوص والارتكاس التي عانتها في العديد من دول العالم، فهي لم تلجأ يوماً إلى اتباع بناء العلاقات السياسية بدلاً من استخدام القوة العسكرية والأمنية والاستخباراتية، ولم تلجأ إلى استخدام الدبلوماسية الناعمة في علاقاتها مع دول العالم، بل استخدمت دبلوماسية المدفع، أو دبلوماسية “القوة الصلبة”، كما أطلق عليها جوزيف صموئيل ناي المتخصص بالتاريخ والعلاقات الدبلوماسية.
هذه الاستراتيجية تبلورت نتيجة فائض جبروت القوة العسكرية التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على الآخرين من أجل اتباع سياساتها، وإجبارهم على عدم التحرك في أي اتجاه مغاير، أو القيام بأي سلوك أو نهج يتعارض مع إرادتها ومصالحها، حتى ولو كان ذلك يتعارض مع الشرعية الدولية أو القانون الدولي.
في هذا السياق، أكّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال اجتماع موسّع مع قيادة وزارة الدفاع، أن استراتيجية الولايات المتحدة ستستمر بتحقيق هذا الدور، وستبقى على إصرارها في البقاء على قمة النظام الدولي، مستنداً إلى ما تمتلكه الولايات المتحدة من فائض وجبروت القوة، حيث قال: “إن الولايات المتحدة الأمريكية ستستمر في قيادة الآخرين من خلال الدبلوماسية، مدعومةً بأفضل قوة عسكرية في العالم”، من دون أن يعترف بأي دور للقوى الأخرى بالمشاركة في النظام الدولي، أو الإقرار بأن القوة الأمريكية الجبارة لم تعد كما كانت، بل هي تعيش حالةً من التراجع والانكفاء والنكوص سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بعد أن تعرّضت لهزائم عسكرية متتالية لا يمكن إنكارها في مختلف الحروب التي خاضتها، وكان آخرها في أفغانستان والعراق.
وعلى الرغم من وجود أكثر من ثمانمائة قاعدة عسكرية لها حول العالم، وما يبين مائة وخمسون ومئتي ألف جندي أمريكي ينتشرون فيها، لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تثبيت وجودها، وفرض هيمنتها وسيطرتها المطلقة، بل هي تواجه حالة من التمرد والعصيان على إرادتها في معظم دول العالم، كما تواجه منافسةّ قوية وشرسة من قوى صاعدة مثل الصين وروسيا والهند، والتي تريد أن يكون لها دور كبير ومهم في تشكيل قيام نظام عالمي متعدد تسوده المساواة والعدالة وتحقيق الحقوق.
لقد كشف روبرت أوبراين مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في حديث مطول لمحطة “فوكس نيوز” عن حالة الضعف التي يعاني منها الجيش الأمريكي، والعقبات المتزايدة التي يواجهها، وعدم قدرته على شن حرب شاملة، بقوله: “إن القوات البرية الأمريكية لا تملك الإمكانيات الكافية وتعاني من الكثير من الإرباكات، والقوات البحرية والعسكرية ضعيفة وتعاني من الوهن والترهل، والقوات الجوية ضعيفة للغاية”.
أمام هذا الاعتراف من جانب مسؤول أمريكي سابق، لديه معرفة واسعة ودراية كبيرة بوضع جيش بلاده، يصبح حديث بايدن، عن القوة العسكرية التي تدعم الدبلوماسية ومنهج التفاوض، مشكوكاً في صحته وجدواه، وهذا يبدو من تناقضه وارتباكه. ولم يكن هذا الاعتراف هو الوحيد، بل اعترف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأن حقبة الحرب الباردة انتهت بشكلٍ نهائي، وأن المنافسة الجادة قائمة لتحديد النظام العالمي الجديد، لكنه ما يزال يصّر على أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها القوة والأدوات اللازمة والضرورية لبذل قصارى جهدها للعب دور مركزي أكبر في هذا النظام، أي أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستسلم بسهولة للتغيير الذي تنادي فيه معظم دول العالم، وما يزال يتحدث عن تحقيق “هزيمة استراتيجية” لروسيا في أوكرانيا، متناسياً حجم الانتصارات التي حققتها القوات الروسية في أوكرانيا، والتعاون متعدد الأطراف للتنافس مع الصين التي اتهمها بتسريع جدولها الزمني للاستعادة تايوان.