رأيصحيفة البعث

عن تأجيل اجتماع “القيادة المركزية”

أحمد حسن

كان من المفترض أن تشهد الحياة الحزبية والسياسية السورية خلال اليومين الماضيين اجتماعاً “تنظيمياً” للقيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي بهدف مناقشة أمور تنظيمية داخلية، لكنها أعلنت عن تأجيله لأسباب تتعلق بضرورة التحضير الجيّد له عبر “اعتماد معايير واضحة لعقد جلسات حوار مسبّقة في كل فرع من فروع الحزب يشارك فيها رفاق مختارون وفق معايير واضحة من بينهم الناجحون والراسبون والمستبعدون في استئناس وانتخابات الإدارة المحلية باعتبارها محطة من المحطات المهمّة في تعزيز الممارسة الديمقراطية داخل الحزب”.

ولأنه حزب البعث، ولأنه الحزب القائد “في” المجتمع والدولة، والقائد لـ”الدولة” بنتيجة الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة وحقيقة حجمه التنظيمي الأكبر ودوره السياسي الرائد، فإن أيّ حراك يقوم به، حتى لو جاء على مستوى تنظيمي داخلي، يعني، ويُعنى به، الجميع في المجتمع والدولة.

وبتعبير آخر، فإن “البعث” في ظل تاريخه المديد ودوره في الحالة السياسية السورية منذ نحو سبعين عاماً ونيف، لا “داخل” له بمعنى ما، فهو لأعضائه وغيرهم وحتى لمن يخالفه النظرة والسياسة والتوجّه.

وبهذا المعنى كان الاهتمام الشعبي والسياسي بالاجتماع كبيراً، وكان الاهتمام المماثل بالتأجيل، وهو الاهتمام ذاته الذي سيلقاه الاجتماع القادم حين يحين موعده.

لذلك، ولغيره طبعاً، تبدو مسؤولية “القيادة المركزية” كبيرة جداً ليس أمام الحزب ومنتسبيه فقط، بل أمام مجمل الأطياف السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعب السوري، ولذلك بالتحديد ترك خبر التأجيل بعض الالتباس عند المتابعين رغم صيغته الواضحة والمفسّرة لأمر مهم طالما شكّل صفة بنيوية للحزب قاربتها الأدبيات البعثية تحت اسم النقد والنقد الذاتي، بمعنى ضرورة الاستماع لأصوات حزبية، لنقل فقط إنها “متضرّرة”، من آليات وإجراءات معيّنة اتخذتها القيادة خلال المرحلة السابقة، وبالتالي بدء البحث ضمن “البيت الواحد” عن الأسباب الحقيقية لأمر طالما أشار إليه الرفيق الأمين العام في أحاديثه المتعدّدة، فالحزب الذي حفلت سنواته السابقة “بمحطات مضيئة من الفكر والتضحية والبناء”، لم يخلُ، كما قال الرفيق الأمين العام، “من الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الأحزاب”، وهي أخطاء أدّت، بالتضافر مع “غياب الآليات والمعايير الموضوعية”، إلى “تراجع دور الحزب في بعض المراحل، والإساءة إلى صورته في مراحل أخرى”، وإلى “بعض الخلل في العلاقة بين القيادة والقاعدة داخل الحزب”، وهذا ما أدّى “إلى عزوف البعض عن الانخراط في تحمّل المسؤوليات الوطنية والحزبية وخسارة العديد من الكوادر الكفؤة التي رأت في تلك الأخطاء ابتعاداً عن أخلاقيات حزبنا وقيمه، وربما انحرافاً عن أهدافه”، حسب الرفيق الأمين العام، والنتيجة “حالة من الركود الحزبي على المستوى الفكري والإجرائي”.

بهذا المعنى فإن سعي القيادة للاستماع إلى من اصطلحنا على تسميتهم، إجرائياً، المتضرّرين من الآليات المتخذة في الانتخابات الماضية، هو محاولة جريئة لتجنّب تبعات ما حذّرت منه الأدبيات البعثية السابقة حين قالت: “إن الخلل الأساسي الذي قد يقع فيه الحزب عند ممارسته لدوره القيادي بين الجماهير هو انزلاقه إلى فرض الوصاية عليها”، وهو أيضاً محاولة للاقتراب من فهم أسباب بروز ظواهر مثل سيطرة “الولاءات الضيّقة والعصبيات التي لا تنتمي للحزب وعقيدته الوطنية والقومية”، أو نشوء انحيازات معيّنة فرضتها طبيعة الحرب الجارية ضد البلاد بأجمعها شعباً وقيادة ودوراً وجغرافيا أيضاً، لكنها، أي هذه الانحيازات لا تعبّر جيداً عن الانحيازات الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية لجسد الحزب الطبيعي، وتلك، بالتالي، لحظة مناسبة لفحص و”تحليل إخفاقات بعض مقولات المنطلقات النظرية أو الفكرية للحزب في غير قليل من المجالات بسبب متغيّرات الواقع وتأثيرات محرّكات البحث وغزو الفضائيات والسوشيال ميديا المنفلتة”، كما يقول الدكتور عبد اللطيف عمران، والتساؤل جدّياً عن كيفية التعامل مع “جماهير” يحرّكها “بوست” ناري أكثر ممّا يحركها تقرير سياسي يغلب عليه الطابع الإنشائي الممل بغض النظر عن صوابية مضمونه.

وهنا تبرز الأهمية، بل الضرورة الملحّة، لبذل الجهد الفكري الضروري لإيجاد صيغة تنظيمية وتنظيرية خلّاقة تندرج فيها “أدبيات الحزب التاريخية” في التاريخ الحالي، بتعقيداته ومشكلاته ومسائله وتحدّياته المختلفة، بصورة شبه جذرية، عن التحديات التي قرّر مواجهتها الشباب المناضل والمثقف الذي اجتمع في “مقهى الرشيد الصيفي” منذ أكثر من سبعين عاماً مرّ فيها وخلالها الكثير.

بيد أن ذلك لا يعني أبداً التغاضي عن حقيقة أن المعركة ما زالت في جوهرها “معركة الجماهير الفقيرة المستغلة”، كما تقول الأدبيات البعثية في طبيعة المسألة التنظيمية، أي تحديداً تلك “الجماهير” التي تؤمن، قولاً وممارسة، بأن “الثروة الاقتصادية في الوطن ملك للأمة”، و”توزّع بين المواطنين توزيعاً عادلاً”، فهؤلاء، حقيقة، من بذل الدماء وقدّم الأبناء و”شدّ الحزام” إلى أقصى ما يمكن لبشري أن يفعله قرباناً لقيامة سورية وانتصارها.

وبالطبع سيسارع البعض إلى القول: إن هذه لغة خشبية لم تعُد تصلح للزمن الحالي، وإن الحزب هو حزب “الوطنية والقومية في مرحلة النهوض”، فإننا نقول معه وهو كذلك، ونضيف أكثر: إنه من الطبيعي أن يغيّر أي حزب أساليبه في تحقيق أهدافه بتغيّر الظروف الموضوعية، وأن يسعى إلى استقطاب شرائح وطنية أخرى في مرحلة الحروب الكبرى، وقد فعلها الحزب دائماً، لكن على ألا يتم ذلك على حساب قاعدته الحقيقية، وخاصة أن المعركة اليوم هي على “الخبز” بالمعنى الحرفي والاصطلاحي للكلمة.

وبالتأكيد فإن الحرب القاسية التي شنّت على سورية تركت آثارها على الحزب كما سواه من معالم الحياة في سورية، فالحرب تبرز أسوأ ما في المجتمعات وأفضلها في الآن ذاته، وبالتالي فإن الحرب ذاتها تفرض اليوم على الحزب باعتباره “القائد” أن يعالج، وباستمرار، الأسوأ ويبرز الأفضل ويدعمه، وذلك مغزى “التأجيل” وهو عين ما ينتظره البعثيون، وسواهم، من الاجتماع القادم.