عصر التحولات الكبرى الجديدة
بسام هاشم
.. للمفارقة، فقد توجت “نهاية التاريخ” بتدمير نظام القطبية الأحادية نفسه، ليدخل عالم اليوم مرحلة تاريخية غير معهودة باتت النزعة العدوانية السافرة، والأعمال العدائية الصريحة، إحدى سماتها الأساسية؛ فالولايات المتحدة لم تعد تتمتع، حقيقة، بوضعية القوة العظمى المهيمنة، ورغم أن البنية التحتية العالمية التي تخدمها لا تزال قائمة، إلا أن التآكل المتسارع في نظام الهيمنة يكبح بشدة عمليات التحول، كما أن إمكانية استبدال القوة الآفلة بقوة صاعدة جديدة – من المعسكر الغربي نفسه – غير قائمة، فالغرب يتخبط جماعياً في مزالق ومعضلات رهيبة ومخيفة، وهناك في الغرب نفسه من يجرّ الحضارة الغربية – عن عدم كفاءة، وعن غطرسة وجشع وضيق أفق – إلى المزبلة.. مزبلة التاريخ المعروفة، وهناك من يمارس الاستبداد الرقمي ويحلم بالتحكم بالعالم من خلال مركزية تقنية أداتها المنصات الاجتماعية، وهناك من يخوض حرباً مجنونة ولا معنى لها لـ “إضعاف” روسيا، وزج بالصين في سباق محموم للتسلح، ومن يفرض العقوبات الاقتصادية، ويسرق النفط، ويتلاعب بتدفقات الغاز، ويتحكم بالوجهة النهائية للواردات الغذائية.. لقد بات “الرجل الأبيض” عبئاً، وما من أحد يقبل بعد الآن تحمل سياساته الاستعمارية والعنصرية. ونتيجة لذلك، وضمن سلسلة طويلة من الإجراءات “الجرائم”، تتكشف هذه السياسات عن نتائج عكسية على أكثر من صعيد، لتبدأ بالفعل عملية تقويض الهيمنة الغربية المتواصلة منذ خمسة قرون على الأقل.
وللمفارقة ثانية، تبدو الفرصة غير متاحة لإعادة توحيد التحالف الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو الحفاظ على النظام العالمي الذي هيمن عليه المعسكر الغربي منذ نهاية الحرب الثانية أمراً ميؤوساً منه، بل مستحيلاً. وبرغم أن واشنطن حققت “بعض” النجاح في إجبار أوروبا على تجديد الولاء لها، مسقطة طموحات القارة العجوز بلعب دور مستقل على الساحة العالمية، إلا أنها لم تستطع وقف اندفاعة كل من روسيا والصين نحو هدف بناء نظام عالمي بديل، متعدد الأقطاب، باتت دول كثيرة، خارج التحالف الأطلسي، لا تخفي تطلعاته إليه، بل وتسعى للمشاركة في بنائه.
ما الذي تفعله واشنطن في مواجهة مثل هذه الاحتمالات؟ لا شيء حتى الآن إلا الإمعان في اختلاق بؤر صراع جديدة، ومحاولة تجنيد المزيد من الحلفاء لخدمة صراعاتها الجيوسياسية، مع الاستمرار برفض الاعتراف بالحقائق العالمية الجديدة، والتنكر للمتغيرات الحاصلة.. لا تقبل واشنطن الاعتراف بأن العالم قد تغير بالفعل، وبأن ما تحتاج إليه، قبل كل شيء، هو التكيف مع البيئة العالمية الآخذة بالتنامي حالياً، وتقبّل واقع وجود مراكز قوة متعددة، وهو المطلوب فعلياً، ولا مخرج من دونه، فالولايات المتحدة الأمريكية لن تستطيع محاربة الجميع، وليس بوسعها تحويل العالم إلى جبهات عسكرية مفتوحة، كما أن قدرتها على إدارة الاقتصاد العالمي تتضاءل بسرعة أيضاً، ولا يمكنها فرض العقوبات إلى ما لا نهاية، أو استخدام كل شيء لفرض عقوبات جديدة. ولن يخرج الغرب من هذه الصراعات أكثر تماسكاً مما كان عليه منذ نهاية الحرب الباردة. وسوف تصبح الخلافات التكتيكية بين الحلفاء عقبة كأداء في طريق بلورة سياسة مشتركة تجاه الكثير من القضايا العالمية ذات الأهمية الحاسمة. ومنذ الآن تتوضح باطراد العلاقة بين ضفتي الأطلسي، إن لم نقل أن الغرب عبر البرزخ فعلياً إلى عالمين منقسمين: عالم أنغلو ساكسوني وآخر أوروبي قاري لاتيني. ومن الواضح، في النهاية، أن الاتحاد الأوروبي نفسه مرشح للمزيد من الانقسامات بفعل مثل هذه الحسابات الخاطئة، وأن عملية الاستقطاب تتكثف حتى داخل الولايات المتحدة، وهو ما يتجلى بقوة في الانتخابات النصفية التي جرت أمس. والتي قد تكون آخر انتخابات تجري في الولايات الأمريكية “المتحدة”، كما قد يكون الهندي ريشي سوناك آخر رئيس وزراء للمملكة “المتحدة”..
يعودون بالسياسة العالمية إلى حالة من الفوضى القائمة على الترهيب والعقوبات وتفجير الحروب وإذكاء صراعات القوة، وإشعال الثورات الملونة من الداخل، ولكن مقاومة الهيمنة الأمريكية، ورفض سياسات الغرب عموماً، تكتسب زخماً في أجزاء مختلفة من العالم.. وكما تراجعت قدرة واشنطن على احتواء خصومها وأعدائها بشكل كبير، خاصة في الشرق الأوسط، حيث نشهد، في وقت واحد، صعود محور المقاومة وظهور تصدعات واضحة وعميقة حتى في تلك التحالفات التي قادتها الولايات المتحدة تاريخياً في المنطقة، تقدم أمريكا اللاتينية مؤشراً واضحاً على إرادة الانعتاق من الهيمنة الأمريكية والغربية..
إنه عصر من التحولات الكبرى الجديدة. وإذا كانت سورية قد دفعت ثمناً غالياً لإطلاقه، فإنما هي قدمت فاتورة مسبقة بمستقبلها ومستقبل أجيالها الطالعة والجديدة.