أوروبا على وقع التناقضات المجتمعية والفردانية
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
تواجه الحضارة الغربية المزيد من المشاكل، فعلى مدى العقود القليلة الماضية، ظهرت العديد من أعراض الانحدار الفعلي للقوى الغربية. وقد انعكست هذه الأزمات بشكل واضح في التقرير الأخير لما يسمى بـ “نادي روما”، الذي يرى أن أزمة اليوم ليست أزمة عارضة، بل إنها تتفاقم وتزداد سوءاً، فالأمر لا يقتصر على الطبيعة من حولنا، بل يشمل أزمة اجتماعية وسياسية وثقافية وأخلاقية وأزمة الديمقراطية والأيديولوجيات والرأسمالية.
وفي ذات السياق يرى” نادي روما” أنه في الثمانينيات كان هناك انحطاط للرأسمالية، وأصبحت فيه المضاربة المالية المصدر الرئيسي للربح، وذلك كان هذا أحد أسباب الأزمة المالية العالمية 2008-2009. إن الغرب في مأزق، وعجزه الفكري يولد المزيد من الارتباك والتردد، كما أن العديد من الأساطير التي أصبحت شائعة تنهار. على سبيل المثال، تلك الأساطير المتعلقة بالتفوق الأبيض أو الاستثنائية الأمريكية. في الوقت نفسه، أدى انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة معارضة للغرب إلى تأجيل أو حتى تأخير تراكم التناقضات العضوية للنظام الرأسمالي، إلا أنه لا يمكن إيقاف عملية زيادة المشاكل ذاتها، وربما يكون أبرز مظاهر الأزمة الغربية المتفاقمة في الوقت الحاضر هو وضع المملكة المتحدة، حيث أصبحت الإمبراطورية التي كانت عظيمة ذات يوم، مؤخراً، كما وصفتها الصحف الأمريكية، مثاراً للسخرية، حيث توافد العديد من رؤساء الوزراء وذهبوا في السنوات الأخيرة، وكان كل واحد منهم أسوأ من سابقه.
جاء تولي ريشي سوناك، وهو من أصول آسيوية، لمنصب رئيس للوزراء في بريطانيا كنتيجة طبيعية للتطور التاريخي، حيث أصبحت المستعمرة البريطانية السابقة مركزاً رئيسياً للتنمية الاقتصادية، وبالتالي فإن حكومة المملكة المتحدة الآن يرأسها هندي من أصول مهاجرة. ومن المحتمل جداً أن يكون آخر رئيس وزراء لتلك المملكة، بالنظر إلى إصرار اسكتلندا على الانفصال عن المملكة المتحدة. كما أن البريطانيين أنفسهم متشككون في قدرة سوناك على معالجة الوضع الاقتصادي السيء في بريطانيا، وفي هذا السياق ترى وسائل الإعلام الأمريكية أنه لن يكون بوسع سوناك إنقاذ البلاد من أزماتها.
قد يبدو الوضع اليوم كما لو أن دول الغرب تتحد مع أوكرانيا ضد روسيا، لكن هذه الوحدة التي تم الإشادة بها ستنهار في غضون عام، وستصبح كل دولة بمفردها، وسيتجلى ذلك بوضوح على خلفية أزمة الطاقة، فقد أصبح الصراع من أجل الموارد أحد السمات الرئيسية للتنمية العالمية، وبناء على ذلك أصبحت العلاقة الأنغلو ساكسونية في مواجهة أوروبا القارية واضحة بشكل متزايد.
إضافة إلى أن المنافسة الاقتصادية ستصبح أكثر بروزاً، ومن الجدير بالذكر أن السباق التكنولوجي الذي يتكشف الآن يحكمه العديد من القيود. وبالتالي، فإن روسيا لا تعتبر منتجاً رئيسياً للنفط والغاز الطبيعي فقط، بل إن موادها الخام- الزنك والنحاس والنيكل- ضرورية للجيل القادم من السيارات، إضافة إلى أنها أكبر منتج في العالم لمجموعة معادن البلاتين المستخدمة في السيارات الهجينة والهيدروجينية، وتعتبر شركة “نوريلسك نيكل” عملاق التعدين الروسي والمورد الرائد للمواد الكيميائية لبطاريات الليثيوم أيون هي الأهم على المستوى العالمي.
تجدر الإشارة إلى أن الصين أيضاً أصبحت مورداً رئيسياً للتكنولوجيا النظيفة، فهي تتحكم في أكثر من نصف الإمداد العالمي الحالي من بطاريات الليثيوم أيون، كما أنها تنتج معظم الألواح الشمسية في العالم، وهي مورد رئيسي “للعناصر النادرة” المستخدمة في صناعة المغناطيس لتوربينات الرياح.
في المقابل، أظهر الغرب أنه غير قادر على سد الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، ولم يتمكن من التعامل بفعالية مع فيروس كورونا. علاوة على ذلك، خلال فترة مكافحة الفيروس، زاد عدد المليارديرات في القوى الغربية بشكل ملحوظ، بينما زاد عدد فقراء العالم، بمن فيهم أولئك الذين يعانون من سوء التغذية والجوع، وقد تمت مناقشة هذه الظاهرة على نطاق واسع في وسائل الإعلام الغربية، ووسائل الإعلام في البلدان النامية.
تحدث وانغ هونينغ، أحد أهم المنظرين في الحزب الشيوعي الصيني، في كتابه الأخير” أمريكا مقابل أمريكا”، أن أمريكا تواجه أزمة خفية و لا يمكن إيقافها، ناتجة من تناقضاتها المجتمعية وفردانيتها. وفي ذات السياق كتب العديد من المحللين السياسيين في الدول العربية عن غطرسة واشنطن، ورغبتها في الاستمرار في استغلال ثروات العالم الثالث كما كان من قبل لإجبارهم على التصرف وفقاً لمصالح الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة.
وفي سياق متصل تعرض منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بشأن تصريحه حول الحاجة إلى حضارة بقية العالم، لانتقادات شديدة في العديد من البلدان الآسيوية والأفريقية، وتمت مقارنته بشكل مباشر بالملحق الاستعماري للقرن التاسع عشر “عبء الرجل الأبيض”.
إن عملية مقاومة الهيمنة الأمريكية تكتسب زخماً في أجزاء مختلفة من العالم، وقد تجلى ذلك بعودة الحكومات اليسارية في المنطقة، في دلالة واضحة على رفض المنطقة لسياسات الولايات المتحدة.
كما أن عملية الاستقطاب داخل الولايات المتحدة نفسها تتكثف، وهناك مشاكل أمريكية أخرى تتصاعد أيضاً كالعنصرية والمخدرات وما إلى ذلك، لدرجة أن مؤيدي الحزب الديمقراطي مثل روس دوثات يتحدثون “عن أخطاء جو بايدن الفادحة”.
من الواضح أن الحسابات الخاطئة في سياسة الطاقة للهياكل الأوروبية الحاكمة ستؤدي إلى مشاكل كبيرة لاقتصاد القارة، وعلى حد تعبير بن فان بيردن، الرئيس التنفيذي لشركة “شل” البريطانية، ستؤدي حتماً إلى تراجع انتاج الصناعة، وسيؤدي هذا الوضع في النهاية إلى مزيد من الانقسامات في الاتحاد الأوروبي، والتخلص التدريجي من تلك النخب الحاكمة التي قادت الاتحاد الأوروبي إلى مثل هذه النتائج الكارثية. في المقابل سيؤدي انتصار روسيا الوشيك في أوكرانيا إلى موجة جديدة من الارتباك والتردد في العالم الغربي.