مجلة البعث الأسبوعية

واشنطن تتخبط بين الدعوات للتفاوض سراً.. وتصريحات التصعيد علناً

“البعث الأسبوعية” ــ بشار محي الدين المحمد

كعادتها تتخبط الإدارة الأمريكية في سياساتها الخارجية التي وصلت حد ذروة الفشل بفترة رئيسها “الديمقراطي” جو بايدن، ويتمظهر ذلك في التسريبات التي نشرتها مؤخّراً صحيفة “واشنطن بوست – القريبة من الحزب الديمقراطي – حول دعوة الإدارة الأمريكية لرئيس نظام كييف فلاديمير زيلينسكي للتفاوض مع روسيا، على الرغم من أنّ تلك الإدارة ما زالت حتى اللحظة لا تدخر جهداً في تسخين جميع جبهات الحرب الأوكرانية ضدّ روسيا، ما يترك الكثير من علامات الاستفهام عن مغزى ذلك، وخاصةً بعد أن بلغ حجم آخر دفعة مساعدات عسكرية أمريكية إلى أوكرانيا 400 مليون دولار تضمنت مبالغ لشراء مسيّرات، وإقامة مقر للمساعدات العسكرية في ألمانيا، وغيرها من دفعات صواريخ هيمارس المستخدمة في قصف المدنيين في دونيتسك، والذخائر والمساعدات الأمنية، إضافةً لإعلان نظام كييف عن قرب امتلاكه لمنظومة دفاع جوي من حليفة أمريكا الأولى “إسرائيل” قبل نهاية العام الحالي، على الرغم من تحذيرات موسكو الجدية لـ “تل أبيب” من الإقدام على هذه الخطوة، واعتبارها خطاً أحمراً، وإن تمت تحت غطاء بلد ثالث، متوعدةً بأنّ ذلك سيكون له تبعات كثيرة.

لقد رأى بعض الخبراء في تسريبات الـ “واشنطن بوست” عملية خداع للشارع الأمريكي والغربي المطالب بقطع إمدادات السلاح إلى نظام كييف وإنهاء الصراع على “الجبهة الأوكرانية”، نتيجة تأثير ذلك في تكاليف المعيشة اليومية ومستويات التضخم وغيرها من الأزمات الاقتصادية وما يترتب عليها من ملفات اجتماعية.

لكن بالمقابل، يرى خبراء آخرون أنّ هناك متغيراتٍ عديدة تشي بفرضيات أقوى من الفرضية السابقة، كفرضية التطويع التدريجي لموقف نظام كييف بعد أن صرّح رئيسه بأنه لن يتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورسالة للغرب أيضاً بتغيير تدريجي قد يحدث في صفوف الإدارة الأمريكية تجاه الحرب الأوكرانية، وخاصةً إذا فاز الجمهوريون في الانتخابات النصفية الأمريكية، كونهم أعلنوا أنّ الحرب لا تعنيهم بقدر ما يعنيهم تصحيح الوضع الاقتصادي الأمريكي بعد تنديدهم المتكرر بما أقدم عليه منافسهم بايدن وحزبه الأزرق من إغداق للمساعدات على نظام كييف دون تحقيق أي نتيجة على الأرض، وبشكل مترافق مع الفشل الذريع للأخير في سياسته الخارجية سواء على صعيد الملف النووي الإيراني، أو الحرب على اليمن، أو أزمة المناخ.

إنّ هذا التسريب بالميل نحو التفاوض، يعكس في طياته أيضاً حالة الرعب التي يعيشها بايدن من إمكانية عزله من الحزب الأحمر، مع  تعالي أصوات أنصاره من نواب حزبه الداعية أيضاً إلى إنهاء الدعم لأوكرانيا وعدم إطالة أمد الصراع بسبب استنزافه للاقتصاد الأمريكي بشكل كبير.

كذلك يعكس هذا التسريب تأثر ما وصل إليه حال دول الغرب نتيجة تأييدها الحرب والعقوبات ضدّ روسيا، وسقوط الحكومات الواحدة تلو الأخرى مع صعود اليمين إلى السلطة، واتساع المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات العمالية في أنحاء أوروبا، بل تسلل ذلك التململ من الإملاءات الأمريكية الداعية لإطالة أمد هذه الحرب إلى المواقف الرسمية لعدد من مسؤولي الغرب، وبشكل متصاعد مع قدوم شتاء سيكون الأعنف على أوروبا بعد إعلان العديد من دولها عن انخفاض منسوب احتياطي الغاز، وعجزها عن شراء البديل بالسعر ذاته من دول أخرى أو وجود البديل بالحجم ذاته لدى دول أخرى، مع العجز أيضاً عن تفريغ حمولات مئات سفن الغاز المسال في الموانئ الأوروبية غير المهيّأة لمثل هذا الأمر حتى اللحظة، على الرغم من زعم ألمانيا قيامها بتجهز معامل تغويز الغاز اللازمة في الفترة القادمة، يضاف إلى ذلك التغير الواضح في الموقفين الألماني والفرنسي بشكل تدريجي من هذه الحرب، فكل ما ذكر بدأ يرمي بثقله على موقف الإدارة الأمريكية من حرب، باستثناء الموقف البريطاني وتعنته الذي وصل إلى درجة إفناء اقتصاده في سبيل دعم موقف أمريكا تحقيقاً لفوائد مستقبلية يظن أنه سيحققها في الحرب ضدّ الروس.

ولا ننسى أيضاً أنّ للميدان حساباته، فحتى اللحظة، يصب الوضع الميداني، على الرغم من صعوبة الحرب وتقلباتها، في مصلحة الروس، إذ إن النظام الأوكراني لم يتمكن من تحقيق أي مما أعلن عنه بسبب فشله في تحقيق تقدّم على جبهات دونباس وليمان ونيكلاي وخيرسون وأوديسا، بل علاوة على ذلك فقد أعلن النازيون الأوكران وقف استعدادهم للهجوم على خيرسون ونيكلاي، وأصبح المشهد يشير بشكل واضح إلى الاستعداد لتحقيق تقدّم روسي كاسح على تلك الجبهات، وهذا أيضاً سيشكل عاملاً حاسماً في إعادة النظر من أمريكا والغرب في مواصلة حرب فشلت في إحداث أي قلب لميزان القوى حتى اللحظة.

المحور الثاني هو التناقض الشيزوفريني لمواقف الإدارة الأمريكية بين دعوتها للتفاوض، وما يقابل ذلك من تصريحات تصعيدية، وعلى رأسها تصريح وزير خارجيتها أنطوني بلينكن ووعوده بإلحاق “هزيمة بروسيا” بالتعاون مع دول الأطلسي، في خطوةٍ تبدي قلق ومخاوف الإدارة الأمريكية من العالم الجديد الذي تسعى روسيا والصين وعدد من الدول المستقلة لإنشائه عبر كيانات جديدة ذات طابع اقتصادي بالدرجة الأولى، واعترفت واشنطن صراحةً بأنها تتعرض لمنافسة شديدة من نظام عالمي جديد. وهذا الأمر يقودنا لقراءة مشهد قد يتضمن حرباً معلنة مع روسيا بسبب مخاوف أمريكا من خسارة ما ربحته من تفكك الاتحاد السوفيتي دون خوضها حربا معه، فهي الآن تريد “هزيمة روسيا”، وبالتالي توجيه درس إلى أي دولة قد تعاند الإرادة المنفردة الأمريكية من الدول المستقلة المناهضة لأمريكا سواء في الجنوب أو أفريقيا أو إيران، ما يضمن استمرار سياستها في الهيمنة على الشعوب ونهب خيراتها خدمةً لمصالحها.

وفي ظل هذا المشهد، يبرز أيضاً مدى التخبط الأمريكي في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي تمّ تعديلها، فبعد أن كانت تعتبر الصين الخطر الأول، أصبحت تعتبر روسيا من تمثل ذلك الخطر، على الرغم من أنها انطلقت سابقاً من الحسابات الاقتصادية وحدها كونها من ترسم العالم في وقتنا الراهن وبشكل واضح، لكنها عادت الآن إلى الحسابات الميدانية والعسكرية كمعيار وحيد، خاصةً بعد تراجع قوتها والاعتراف الغربي من أقرب حلفائها بذلك، ويمكننا أن نلمس هذا الاعتراف في بمطالبات ألمانيا وفرنسا بتشكيل جيش أوروبي يؤمّن لأوروبا الحماية بعد فشل أمريكا والناتو.

بالنتيجة فإنّ الحرب الأوكرانية هي حرب فاصلة بين مرحلتين تاريخيتين متمايزتين من منظور الإدارة الأمريكية، وهذا يرجّح عدم الاتجاه نحو سلوك التفاوض، واستمرار الاستنزاف لتحقيق أحلام اليقظة التي تعيشها أمريكا حالياً، مع استمرارها بتصوير نفسها على أنها قوة محققة للسلم العالمي، وأنّ غيابها عن الساحة العالمية سيسبب فراغاً وخطراً، في وقتٍ لم تستلم فيه دول الجنوب وأفريقيا والدول المستقلة لهذه الهيمنة لحظةً واحدة، بل إنها مستعدة للاتحاد ضدّها بأي شكل من الأشكال مع تنامٍ يومي للعالم الجديد.