صنارة الموت
سلوى عباس
في زمن مضى كنتُ أظنّ أن الشعراء والفنانين والأدباء بعيدون عن يد الموت، لا تطالهم صنارته، يتكئون على قلوبهم لينسجوا من ياسمين الإبداع عالماً من بهاء يتألقون فيه بكلماتهم وألوانهم وحكاياتهم، ويسكبون على مساحات بياضه نبض أرواحهم، يداعبون اللغة ويصنعون من المفردات باقة من ورد، ويعيشون فيه لحظة من هواجس الماضي والحاضر والمستقبل، ربما تكون لحظة وجدانية لالتصاقها بحركة الأنا والذاتي لديهم، والقبض على فكرة ليست جديدة تكون نتاج مثاقفة بين الحياة والحوار الذي يصنع إبداعهم، الذي هو جملة إنتاج وجداني من نصّ مكتوب أو إنتاج موسيقي أو مسرحي أو تشكيلي، هو حالة تنفس الذات بطريقة غير غريزية، وحاجة ظهور التراكم المعرفي المحض لولادة عمل إبداعي له ذاته، وأحياناً الطاقة التي تنتج هذا الفن قد يزيد عنها معرفة أخرى من ذات الطاقة، فتنتج بوحاً آخر للشاعر أو الفنان أو الأديب، لأنها باختصار لعبة طفلية تنمو وتأخذ أشكالاً أخرى كأي لعبة من لعب الأفكار، وبقدر ما يحافظون على هذه اللعبة وتجديدها بقدر ما تعطيهم الخيال والخيار، هي بثّ طاقة الذات لتحديد شكل المنجز، سواء كانت صورة أم قصيدة أو مقالة، ولو أن المساحة البيضاء قد يصدر عنها خوف من المجهول.
إلى زمن ليس ببعيد كنت أنظرُ إلى إبداع أي شاعر أو أديب أو فنان على أنه بوابات للروح، ترانيم وقصائد تلوّن لحظات الحلم لتنهمر الروح على مساحات البياض، تؤكد حالة الحضور عبر البحث عن قيم وإيهامات المنتج الإبداعي ليأخذ احتمالاً آخر من خلال تحولات الزمن، ولتكن هذه اللحظة هي البداية في بحر من الرغبات للبحث عن حالة الخلاص، خلاص الروح من تأويلات الغياب، ورغبة في تجسيد ملامح الذات والبحث عن مكنونات النفس البشرية من بداية الاغتراب حتى ارتفاعات الغياب، وفي كلّ رحلة يعود ذلك الشاعر أو الأديب أو الفنان أكثر اغتراباً، وأكثر ارتياباً ليبدأ من جديد، فالإنسان منذ بداية الخلق كان ومازال يبحث عن مساحات أكبر من أجل التواصل مع هذا الكون عبر لغة تحمل ملامح الأنا في الكلّ، من خلال البحث والتجربة وامتلاك حالة من الوعي لقيم الحق والجمال، وما لحظات التجلي والانصهار إلا حالة انفلات من القوانين للوصول إلى حالات تتسمُ بالحرية، وتحمل ومضات إبداعية.
إلى زمن ليس ببعيد كانت رؤيتي للفن والأدب حالة خلاص من عالم القتل والدمار إلى عالم مختلف نابض بروح الشعر والأدب والفن، لكن خساراتنا الأدبية والفنية الكثيرة التي ألّمت بنا هذا العام أحبطت كلّ ظنوني لتضعني أمام يقين الحقيقة بأن هؤلاء المبدعين الذين ظننتُ في لحظة أن الموت لا يطالهم ولا يستطيع أن يخمد عنبر أرواحهم، أراهم قد أسلموا قيادهم للموت وأعلنوا هزيمتهم أمامه بلحظة هاربة من عمر الزمن، وربما اختاروه خلاصاً من عالم الحرب والخراب إلى عالم أكثر نقاء وأماناً، فكلّ يوم تطالعنا الأخبار برحيل قامة إبداعية لها بصمتها الإبداعية والإنسانية، فالشاعر عادل محمود الذي دخل في غيبوبة استمرت لأشهر إثر عمل جراحي في الدماغ، ظننا جميعاً أنه يختبر فيها الموت وأنه سيعود لأهله ومحبيه، لكنه بالأمس توقف ينبوعه عن التدفق فسقط القلم ومات الرحيق في المعنى، وفقدت العبارات ألقها، حيث أسلم روحه لعالم رآه أكثر أماناً واطمئناناً من عالمنا ولم تجدِ معه نداءات محبيه للعودة وآثر الرحيل.
اليوم والآن يعود الشاعر عادل محمود من رحلته البعيدة ليحطّ رحاله في قريته عين البوم حاملاً قصيدته كفناً يلفّ روحه بعد أن أضناها التعب.