أسطورة ديمقراطية الولايات المتحدة
عناية ناصر
أثارت انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي مخاوف عالمية واسعة النطاق، حيث أصبحت الآثار المدمّرة غير المباشرة للفوضى الداخلية الأمريكية على الوضع الدولي واضحة بشكل متزايد، مما خلق الكثير من المشكلات.
كانت الانتخابات في الأصل، وفقاً للتصميم الأصلي للنظام، “امتحاناً نصفياً” لأداء الحزب الحاكم لمدة عامين، وكانت “أسئلة الامتحان” تتعلق أساساً بالاقتصاد المحلي وسبل عيش الناس، لكن انتخابات هذه المرة، كانت خارج نطاق هذه القضايا منذ البداية، حيث كان الحزب الجمهوري لا يزال مهووساً بما إذا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية قبل عامين “نزيهة”، بينما جعل الحزب الديمقراطي الانتخابات “استفتاء” حول الديمقراطية الأمريكية.
يعاني الأمريكيون منذ أربعة عقود من أسوأ تضخم، ومخاوف من الركود، لكن مخاوفهم تلاشت، حيث بذل الحزبان قصارى جهدهما لتحريض الناخبين واختطافهم بلغة أيديولوجية، الأمر الذي زاد من حالة عدم اليقين والثقة بالانتخابات.
ويشعر حلفاء الولايات المتحدة بالقلق من أن المشهد السياسي المتغيّر في واشنطن قد يؤدي إلى عكس استراتيجياتهم الخارجية وسياساتهم العامة، ففي الوقت الحالي، تختلف وجهات النظر السياسية للحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري حول القضايا الدولية الرئيسية اختلافاً كبيراً، مثل الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وتغيّر المناخ، والقرارات ذات الصلة التي تتخذها الأحزاب المختلفة، أو حتى أشخاص مختلفون من الحزب نفسه، فهم لا يريدون التفكير في استقرار واستمرارية السياسات، كما أنهم لا يتحملون عبئاً نفسياً عند نقض قرارات أسلافهم فحسب، بل غالباً ما يشعرون بالعجرفة. وكان العالم قد شهد هذا النوع من التلاعب عدة مرات، وتجسّد بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس، والمحادثات النووية الإيرانية، ومحادثات الحدّ من التسلح، ووكالات الأمم المتحدة ذات الصلة.
تحوّل انقسام المجتمع الأمريكي ومعارضة الأحزاب السياسية إلى عدم ثقة بالإدارة الأمريكية أو قراراتها على الساحة الدولية، فقد جعل النظام السياسي الأمريكي صانعي السياسة أقل عرضة للمساءلة عن السلوكيات غير المسؤولة.
لذلك لا تتوقع الدول المعتبرة منافسة للولايات المتحدة تناوب الأحزاب السياسية الأمريكية لتهدئة العلاقات، أو إعادة الولايات المتحدة إلى البراغماتية والعقلانية. وفي الوقت نفسه، فإن هذه الدول مستعدة لاحتمال أن تصبح أهدافاً للولايات المتحدة للتنفيس عن مشاعرها القوية. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة أظهرت نوعاً سلبياً من اليقين في هذا الصدد، حيث أصبحت أكبر مصدر لعدم الاستقرار العالمي، خاصةً وأنها تجعل الوضع العالمي أسوأ بسبب عدم اليقين، حيث أصبحت الحساسية الشديدة، والتقلب، والعصابية، والعدوانية، كلها أعراض حديثة للديمقراطية الأمريكية. وبما أن الولايات المتحدة قوة عظمى ذات تأثير عالمي، فعندما يختلّ نظامها، يتضرّر العالم بأسره، فبعد عامين من أحداث الشغب في الكابيتول، التي صدمت العالم، إلى انتخابات التجديد النصفي لا تزال الاضطرابات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة مستمرة، كما أن خطر العنف السياسي يتزايد بدلاً من أن يتناقص، ومعدل الجريمة آخذ في الارتفاع، كما ازداد عدد المنشورات التي ذكرت “حرب أهلية” على موقع “تويتر” بنسبة تصل إلى 3000 بالمائة تقريباً، فالسياسيون يتنافسون على من هو أكثر عدوانية!.
لا يشعر الأمريكيون العاديون بالإحباط والقلق بشأن الوضع فحسب، بل إن العالم أيضاً قلق بشأن الولايات المتحدة، وفي هذا الإطار تساءلت إحدى وسائل الإعلام الفرنسية مؤخراً: هل برميل البارود الأمريكي على وشك الانفجار؟ وهو ما يظهر شعور العالم الخارجي المشترك، إذ أن هناك إجماعاً لدى العالم أن البيئة السياسية الأمريكية سوف تتدهور أكثر بعد انتخابات التجديد النصفي.
يعمل النظام الأمريكي منذ أكثر من 200 عام، ويعتبره البعض رائعاً. ومع ذلك، تظهر الممارسات أن المجتمع البشري لم يصمّم بعد نظاماً سياسياً مثالياً يمكن تطبيقه بشكل جيد في أي مكان مرة واحدة وإلى الأبد. بعبارة أخرى، لم تكن هناك “أسطورة ديمقراطية”، ولا ينبغي على الناس تأليه النظام السياسي الأمريكي. لقد وصلت الديمقراطية الأمريكية إلى ما هي عليه اليوم، مع وجود عيوب واضحة بشكل متزايد، لذلك تحتاج الديمقراطية الأمريكية إلى مواكبة العصر.
من الجدير بالذكر أنه مع تراجع جودة الديمقراطية الأمريكية، فإن تكلفتها آخذة في الارتفاع، ومن المتوقع أن تتجاوز التكلفة الإجمالية للانتخابات النصفية للولاية والفيدرالية، للعام 2022، أكثر من 16.7 مليار دولار، ولذلك ليس من المستغرب الإشارة إليها على أنها “الانتخابات النصفية الأغلى على الإطلاق”.
لقد تجنّبت دول عدة التعليق على تفاصيل محدّدة لانتخابات التجديد النصفي الأمريكية، وذلك نتيجة المخاوف من أن تُتهم بالتدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، إضافة إلى حقيقة أن البلدان، التي عانت من تدخل الولايات المتحدة في شؤونها الداخلية، ليس لديها نيّة أن تتدخل، ولن تتدخل في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، على الرغم من أن السياسة الأمريكية تؤثر على مصالح العالم كله.