الحركة التصحيحية.. منعطف الإصلاحات والإنجازات
د. معن منيف سليمان
تعدّ الحركة التصحيحية التي قادها الرفيق المناضل حافظ الأسد، في السادس من تشرين الثاني عام 1970، منعطفاً جديداً لقيام الإصلاحات والإنجازات من أجل بناء سورية الحديثة، فقد أدخلت إصلاحات جديدة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وأنهت الصراعات الداخلية فيه، وفي أوائل عام 1971، انتخب القائد المؤسّس حافظ الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية بأغلبية شعبية ساحقة، وبدأ العمل من أجل إصلاح الأوضاع السياسية في سورية، فتشكّل مجلس الشعب، وجرى توحيد الأحزاب الرئيسية في الجبهة الوطنية التقدمية، ووُضع دستور دائم للبلاد، وخاضت سورية حرب تشرين التحريرية، عام 1973، لاستعادة الأراضي العربية المحتلة.
ففي مرحلة الستينيات من تاريخ قطرنا العربي السوري، انبثقت ضرورة وجود قيادة للحزب والدولة والمجتمع تكون على مستوى إنجاز المهام التاريخية الصعبة التي تواجه نضال الأمة العربية من حيث الوجود والحدود والكرامة والمصير، كما تطلّبت ظروف تلك المرحلة توافر أعلى شروط الوعي والثقة بالحزب وقواعده وجماهيره، وبقية القوى الوطنية والتقدمية، كي تتمكّن هذه القيادة من تعبئة قوى الجماهير، وتجنيد طاقاتها لخوض معركة التحرير والبناء، في وقت كانت آثار النكسة ترخي بثقلها ومرارتها على نفوس عامة أفراد الشعب في الوطن والأمة، ثم أتت العقلية المناورة ومناوراتها لتزيد من خطورة المرحلة، وتعرّض الحزب والثورة للخطر، فتصدّى مناضلو الحزب بقيادة الرفيق المناضل حافظ الأسد لهذا، وتمّ القيام بحركة تصحيحية من داخل الحزب تعيده إلى مساره الصحيح، وتخلق مناخاً حزبياً وشعبياً في القطر والوطن العربي يساعد على وحدة جبهة الشعب الداخلية، ووحدة جماهير الحزب وقواه المناضلة لدفع مسيرة الثورة إلى الأمام، وخوض معركة التحرير والعمل لتحقيق الوحدة.
وقد وضعت جماهير الشعب والحزب ثقتها بالرفيق حافظ الأسد نظراً لما عرفته عنه من دور إيجابي في حسم الصراعات والأزمات التي مرّ بها الحزب، ولمواقفه التاريخية من قيادة اليمين، ثم لموقفه الحازم والفعّال في ثورة 23 شباط، وكذلك لموقفه المؤثر في القضاء على مؤامرة أيلول عام 1966، كما تجلّت أيضاً مواقفه القومية والوطنية الجريئة في المؤتمر القطري الرابع، والقومي العاشر عام 1968، ضد القيادة المتسلطة والمناورة والممارسات الخاطئة التي عملت على إلغاء دوره الوطني، وتعبئة الحزب والجيش ضده، دون أن تفلح في ذلك، لأنه كان مع الشعب والحزب، فصار الحزب والشعب معه، وقادهما لحسم المواقف في 16 تشرين الثاني عام 1970، حيث أعلنت القيادة القطرية المؤقتة بيانها التاريخي الشامل الموضح لمسيرة التصحيح بأبعادها المحلية والوطنية والقومية والدولية.
وشرع القائد المؤسّس حافظ الأسد بعد انتخابه رئيساً للجمهورية مطلع عام 1971، بترسيخ الاستقرار الداخلي من خلال إرساء دولة المؤسّسات الديمقراطية (مجلس الشعب، والإدارة المحلية، والدستور الدائم للبلاد، والجبهة الوطنية التقدمية)، وقد كان الاهتمام بالوضع الداخلي، وتكريس مسيرة الاستقرار والبناء، مواكباً لأبعاد النضال القومي ومتطلباته.
إن المرحلة التي قطعها نضال الحزب خلف القيادة التاريخية للتصحيح المجيد وقائده الأمين، هي مرحلة الإنجازات الوطنية والقومية الضخمة، وقد استنفدها النضال الدؤوب للرفيق الأمين العام للحزب القائد حافظ الأسد في المستويات الوطنية والقومية، فتمّ بناء سورية القومية المتماسكة داخلياً، وكانت تلك المرحلة مرحلة التأسيس، وبعد ذلك الانطلاق نحو البناء والتحرير في عمر الحركة التصحيحية، كما وضع القائد المؤسّس أساليب العمل القومي قدماً إلى الأمام، وتوجّه بثقة وقوة إلى تحسين العلاقات العربية العربية، ودعم التضامن العربي، وبادر إلى زيادة أواصر الثقة وتبادل العلاقات على المستويات كافة بين الأشقاء من المحيط إلى الخليج.
لقد سارت أيام التصحيح المجيد على طريق النضال القومي يوماً بعد يوم، وإنجازاً بعد إنجاز، وقد كان تشكيل مجلس الشعب من أبرز تلك الإنجازات، ويضمّ ممثلين عن الحزب والمنظمات الشعبية والمهنية والقوى والعناصر التقدمية بهدف ممارسة التشريع ووضع الدستور الدائم للبلاد، وقد بدأ المجلس أعماله بكلمة توجيهية قومية ألقاها القائد المؤسّس في 22 شباط 1971. وكانت الخطوة المهمة التالية بعد تشكيل مجلس الشعب متمثلة في المرسوم الذي أصدره في 11 أيار 1971، المتضمن قانون الإدارة المحلية الذي يهدف إلى تركيز المسؤولية في أيدي جماهير الشعب لتمارس بنفسها إدارة شؤونها، من خلال جعل الوحدات الإدارية في كلّ المستويات مسؤولة عن الاقتصاد والثقافة والخدمات وغيرها، وقد جرى انتخاب مجالس الإدارة المحلية في المحافظات في دورتها الأولى في 3 تموز عام 1972.
وفي العام نفسه، أصدر القائد المؤسّس القرار رقم 35 تاريخ 24 أيار 1971، الذي تضمن تشكيل لجنة من الأحزاب والقوى الوطنية التقدمية تتولى وضع صيغة عملية للوحدة الوطنية، وفي أقل من سنة أنجزت اللجنة مهامها، ووضعت ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية، وتمّ التوقيع عليه من قبل جميع الأحزاب المشاركة في 7 آذار عام 1972، وحدّدت مهام الجبهة على الصعيد الوطني، والقومي، والدولي، كما حدّد نظامها الأساسي ومؤسّساتها.
وفي المجال نفسه كان تحقيق الإنجاز الآخر المهم، فقد أقرّ مجلس الشعب الدستور الدائم للبلاد، والذي أكد أن الحرية حق مقدس، والديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن حريته، ومكرساً التحولات التقدمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحققت في سورية.
وتأتي حرب تشرين التحريرية في طليعة إنجازات تلك المرحلة على مستوى النضال القومي، وكانت تتويجاً للمرحلة الانتقالية من عمر التصحيح المجيد، وقد جاءت آثار هذه الحرب ونتائجها بالغة الأهمية على الصعيد القومي والعربي، والعسكري والدولي.
واستمرت سورية في مواجهة المخططات والمشاريع الصهيونية، متمسّكة بأهدافها وثوابتها الاستراتيجية الوطنية والقومية، وشامخة رافعة لواء المقاومة والصمود والممانعة لمواجهة العواصف العدوانية لتحالف الشر العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها لإخضاع المنطقة للنظام الشرق أوسطي الجديد الذي تحطّم على صخرة صمود المقاومة من العراق إلى لبنان وفلسطين.
وقد واصل السيد الرئيس بشار الأسد مسيرة البناء الداخلي حاملاً راية التطوير والتحديث، إذ إن سورية تتمتّع بالانفتاح والتقدم العلمي الكبير بوجود المصارف الخاصة والجامعات والكليات في العديد من المناطق، بالإضافة إلى العشرات من وسائل الإعلام الجديدة الخاصة، وما تحقق في ظل قيادة السيد الرئيس بشار الأسد كثير وكبير، حيث صدرت عشرات المراسيم والقوانين والإجراءات العملية التي تمسّ حياة المواطنين، وكذلك حققت سورية العديد من الإنجازات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بفضل حكمة وحنكة السيد الرئيس بشار الأسد الذي نجح في تعزيز العلاقة الاستراتيجية مع البلدان المجاورة وفي مقدمتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كمقدمة لبناء نظام شرق أوسطي جديد جوهره المقاومة بمعناها الثقافي والعسكري. وأصبحت سورية اليوم أكثر تفاؤلاً بالمستقبل على الرغم من كلّ المعوقات ورهانات الخارج التي تحطّمت على صخرة الصمود العربية السورية، فقد استطاع سيادته أن يثبت بأنه القائد الصلب والمنفتح أيضاً الذي يتعامل مع الأحداث والمتغيّرات بعقلانية وحكمة ودراية.
وأخيراً، لا بدّ من القول، إنه لولا الحركة التصحيحية المجيدة لكان وضعنا العربي أكثر مأساوية، ولا كان هناك قلعة صامدة تقف بصلابة وشموخ أمام كلّ المؤامرات التي عصفت وتعصف بمنطقتنا العربية، وتسقطها وتفشلها، ولا كانت تلك الإنجازات الداخلية التي كانت ركيزة أساسية للوحدة الوطنية.