الولايات المتحدة صديقة “ماكرة”
عناية ناصر
استقبل الهنود الأصليون أجداد الأمريكيين بالطعام واللطف، لكن رد هؤلاء على ذلك كان بالبنادق والرصاص. لقد تغير الزمن، ولكن هذا التقليد ظل متوارثاً، فقد أثبتت الولايات المتحدة أنها “صديقة” ماكرة، وغير جديرة بالثقة للدول الأخرى.
عندما يشتكي الرئيس الفرنسي ماكرون من الثمن الفلكي الذي يتعين على الاتحاد الأوروبي دفعه لصناعة الطاقة الأمريكية، فهو يلمح إلى أن أصدقاءه الأمريكيين والبريطانيين هم من اختطفوا عقد الغواصات الفرنسية التي تعمل بالطاقة النووية مع أستراليا قبل عام واحد فقط، وهو ما وصفه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بأنه “طعنة في الظهر”.
إن فرنسا ليست الضحية الوحيدة من بين شركاء أمريكا الأوروبيين، فعندما يتعلق الأمر بتكتيكات أمريكا لاحتواء أعدائها وحلفائها على حد سواء، فإن الإستراتيجية الأكثر تفضيلاً هي تأجيج الصراع الجيوسياسي، وقد أظهر التاريخ كيف تعمل هذه الطريقة بشكل مثالي. وبالنسبة للولايات المتحدة، إن الوضع في أوكرانيا هو في الواقع فرصة سانحة، حيث لم يؤد الصراع الساخن إلى تنشيط منظمة حلف شمال الأطلسي العسكرية القديمة فحسب، بل أدى أيضاً إلى تضييق التعاون وخيارات العمل بالنسبة لأوروبا، فمن خلال تشجيع أوكرانيا على “محاربة روسيا حتى آخر أوكراني”، أصدرت الولايات المتحدة طلبيات عسكرية ضخمة لمجمعها الصناعي العسكري. ووفقاً لتقرير صادر عن صحيفة “ذا هل”، في آذار، ارتفع سهم شركة “لوكهيد مارتن “منذ بداية العام، بنحو 25 في المائة، بينما شهدت شركات “رايثيون”، و”جنرال ديناميكس”، و”نورثروب غرومان “ارتفاعاً في أسعار أسهمها بنحو 12 في المائة. ومع استمرار الصراع، زادت الولايات المتحدة بشكل كبير من وجودها العسكري في أوروبا. ففي 29 حزيران الماضي، أكدت وزارة الدفاع الأمريكية نشر 20 ألف جندي إضافي في أوروبا منذ بداية الصراع، منهيةً بذلك سجلاً استمر 30 عاماً في تراجع انتشار القوات الأمريكية في أوروبا.
لقد نجحت الولايات المتحدة على المستوى الاستراتيجي، في إنعاش الناتو “الميت سريرياً”، والقضاء على الحلم الأوروبي بالاستقلال الدفاعي، فهل وفّت الولايات المتحدة حقاً بوعدها بأنها “لم تترك حلفائها وشأنهم أبداً”؟ وتظهر الإجابة من خلال ما حدث لحلفاء أمريكا الأفغان العام الماضي.
الآن تجد الدول الأوروبية نفسها محاصرة في أكثر من مأزق، ويجب تذكيرها بأن أمريكا لن تتردد أبداً في السعي وراء تحقيق مصالحها الوطنية على حساب الآخرين، بما في ذلك حلفائها، وعادة ما يكون هذا بشكل مخفي ومموه بعبارات مثل “القيم المشتركة”، أو “الديمقراطيات ذات التفكير المتماثل”، لكن إدارة ترامب السابقة كشفت بجرأة عن نية أمريكا الحقيقية من خلال فرض تعريفات جمركية على الصلب والألومنيوم الأوروبي. واليوم مع تدهور العلاقات الدبلوماسية مع روسيا، أصبحت أوروبا أكثر اعتماداً على الطاقة الأمريكية في الشتاء القادم.
لقد اعتبرت الولايات المتحدة ألمانيا “مسبباً للمتاعب” منذ أن بدأت المستشارة أنجيلا ميركل مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 مع روسيا، و كانت الولايات المتحدة، على مدى سنوات، تحاول تخريب هذا المشروع، مجبرة الألمان على الانسحاب. وقد أدى اندلاع الصراع في أوكرانيا أخيراً إلى تخلي ألمانيا ومعظم الدول الأوروبية الأخرى عن “الدعم الاستبدادي” والتحول إلى “الطاقة الديمقراطية”.
قال لوران سيغالين وهو مصرفي في مجال الاستثمار في مجال الطاقة إن الشركات الأمريكية يمكنها ملء وإرسال سفينة عبر المحيط الأطلسي مقابل حوالي 60 مليون دولار، ثم العودة بمبلغ 275 مليون دولار. وشكا ماكرون من ذلك بالقول: “هذا ليس معنى الصداقة بالضبط”، مشيراً إلى أن الدول الأوروبية تدفع أربعة أضعاف السعر الذي تبيعه الولايات المتحدة محلياً. ربما لا يتعلق الأمر بالصداقة في المقام الأول، لأن الولايات المتحدة تطلب من الدول الأوروبية أن تدفع ثمن “القيم الديمقراطية” الإضافية المرتبطة بالغاز الأمريكي.
وبينما يقاتل الأوروبيون لملء خزانات الغاز قبل الشتاء، عزز الاحتياطي الفيدرالي سياسته القوية للدولار وسط الركود العالمي، ورفع أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس للمرة السادسة هذا العام، وهو أعلى مستوى منذ عام 2000. وبفضل القوة بالدولار، فإن منطقة اليورو تتجه إلى طريق مسدود. ووفقاً لمؤشرات الأسواق المالية، انخفض سعر صرف اليورو مقابل الدولار الأمريكي إلى ما دون 99 سنتاً، مسجلاً أدنى مستوى له في 20 عاماً. وفي هذا الإطار، نفى الرئيس الأمريكي مخاطر قوة الدولار الأمريكي، وألقى باللوم على النمو الهزيل والعثرات السياسية في أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك أوروبا لتسببها في تراجع الاقتصاد العالمي، وعلق الرئيس بايدن على حالة الاقتصاد الأمريكي بقوله “اقتصادنا قوي مثل الجحيم”.
في نهاية المطاف، يبدو أن القضية هي دعوة أوروبية لتقرير مستقبلها، فبدلاً من الاعتماد على “صديق قاتل”، يتعين على الاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوات جادة لتحقيق الحكم الذاتي الاستراتيجي، والعثور على صديق بالفعل وليس صديق جشع.