“للتريث” عبارة أضاعت على المزارعين “شقى العمر” من محصول الذرة الصفراء!!
البعث الأسبوعية ـ تحقيقات – علي عبود:
لدى الكثير من المواطنين تجربة مريرة، وغالبا مؤلمة مع عبارة “للتريث”، والتي تعني قولا واحدا: الرفض!!
هذه العبارة المقيتة يُذيل بها أصحاب الشأن والقرار الكتب المرفوعة إليهم من مواطنين يطلبون خدمة ما، أو من موظف يسعى إلى النقل إلى مكان أفضل..الخ!
كما إن المسؤول لا يجد أفضل من عبارة “للتريث” وبالقلم الأخضر ليذيل بها طلبات بعض المستثمرين، والتي تعني رفضا قاطعا لمشاريع حيوية تقدم السلع والخدمات لملايين السوريين في مجالات النقل والإنتاج والخدمات ..الخ!
ولن نجادل في رأي الجهات الحكومية لاستخدامها عبارة “للتريث” على الكتب والطلبات الخاصة بالتوظيف أو الخدمات العامة كحفر الآبار أو تمديد شبكات جديدة للكهرباء والمياه والطرقات، أو تخديم مناطق بالباصات ..الخ، لأن عبارة “للتريث” في هكذا حالات، صحيح انها تمنع تحسين الواقع، لكنها على الأقل لا تلحق الضرر المادي بأحد.
ما يعنينا من عبارة “للتريث” هو سوء استخدامها، بل وإلحاقها الضرر والخسائر الجسيمة بالمنتجين، أي منعها قصدا وإصرارا من تأمين الأدوات الكفيلة بزيادة المردود الإنتاجي لخطط وضعتها وزارة الزراعة والتزم الفلاح بتنفيذها!
لا للمجففات
نعم، عبارة “للتريث” أضاعت على المزارعين “شقى العمر” من محصول الذرة الصفراء لأن المؤسسة العامة للأعلاف عجزت عن تأمين الحد الأدنى من المجففات الآلية لهذا المحصول الإستراتيجي .. فماذا كانت النتيجة؟
أدت الأمطار الأخيرة إلى غمر محصول الذرة بالمياه، فاضطر المزارعون إلى نشره في الطرقات تحت أشعة الشمس لتجفيفه لأن المجففات الآلية غير متوفرة، مع احتمال كبير بإصابته بالعفونة، أو زيادة نسبة الرطوبة فيه عن الحد المسموح به، أي بما يحول دون شرائه من الفلاحين !
المثير في الموضوع أن اللجنة الاقتصادية التي تضم عددا من الوزراء يُفترض نظريا أن يكون شغلهم الشاغل توفير مستلزمات زيادة إنتاج الذرة الصفراء إلى مستوى الاكتفاء الذاتي والتوقف عن استيرادها لم توافق على إنشاء مجففين في دير الزور والرقة، وأكد المدير العام للمؤسسة العامة للأعلاف عبد الكريم شباط أن رد اللجنة الاقتصادية على هذا الطلب كان بعبارة “للتريث”!!
ولم يكشف مدير المؤسسة من هي الجهات الحكومية التي طلبت “للتريث”، فالجهات المعنية بالموضوع هي حصرياً اثنتان وزارة الزراعة واللجنة الاقتصادية، ولا ثالث لهما سوى وزارة المالية المعنية برصد الإعتمادات!
التريث على ماذا؟
والمثير أكثر هو الجواب على سؤال: “للتريث” على ماذا؟
بررت الجهات الحكومية “تريثها” بالموافقة على إنشاء مجففين للذرة الصفراء لحين معرفتها بمصير عقد مجفف دير حافر، وهذا المجفف حكايته طويلة عمرها خمس سنوات، فهل ينتظر الفلاحون عدة أشهر وليس سنوات لتجفيف محصولهم أم يلجؤون مضطرين للاستنجاد بالشمس؟.
أما تأكيد مؤسسة الأعلاف أن إنشاء ثلاث مجففات غير كافية لتجفيف كامل إنتاج البلاد من الذرة الصفراء فعذر أقبح من ذنب الجهات الحكومية التي لم تكن جادة بإعادة مجفف دير حافر إلى العمل ولا بالموافقة على إنشاء مجففات إسعافية لتجفيف ما يمكن تجفيفه من المحصول!
أليس غريبا أن تشجع وزارة الزراعة في خططها وتصريحاتها الأخيرة الفلاحين على زراعة الذرة، ولا تعمل بموازاة التشجيع على إنجاز المجففات الكافية لتجفيف كامل المحصول؟!.
إن عبارة “للتريث” هنا تعني إلحاق الخسائر بمن صدّق والتزم بزراعة محصول وعدت الجهات الحكومية بتأمين مستلزماته، لكنها لم تفعل، ولم تعلن التزامها بالتعويض، فهل بعبارات “للتريث” نشجع الزراعة وننتج بدائل مستوردات منتجاتها؟
لقد بدأت حكاية تنفيذ عقد إنشاء مجفف بطاقة 50 طناً في الساعة في دير حافر بمحافظة حلب بقيمة 1.2 مليار ليرة عام2019، لكن الشركة العامة للطرق والجسور لم تلتزم بإنجاز المشروع ، ورسا العقد في شباط الماضي على متعهد من القطاع الخاص بقيمة 9.7 مليارات، لكن المراسلات ما زالت بين المؤسسة واللجنة الاقتصادية مستمرة منذ نيسان من العام الحالي وحتى الآن لم يتم البت في هذا العقد، ونظرا لانتهاء الفترة المحددة لارتباط العارض بعرضه انسحب المتعهد!
لماذا التركيز على القطاع الخاص؟
لم تجد مؤسسة الأعلاف من جهة تلقي فيها بمسؤولية غياب المجففات سوى القطاع الخاص، فرأى مدير المؤسسة أن مشاريع مجففات الذرة لم تكن مغرية للمستثمرين رغم التسهيلات الكبيرة، وهذا برأينا أمر طبيعي فلن يستثمر القطاع الخاص بمجففات لن تعمل سوى لفترة قصيرة سنويا مهما كانت المغريات، وإذا فعلها فسيتقاضى من الفلاحين أجورا باهظة ،وبالتالي من البداية كان على وزارة الزراعة أن توجه مؤسسة الأعلاف بإقامة المجففات على حسابها سواء نفذها القطاع العام أم الخاص.
وإذا كانت وزارة الزراعة فوجئت بإنتاج غير متوقع من الذرة الصفراء،فهل هذا تبرير أم تقصير بتوفير مجففاتها الآلية؟
هل يكفي الفلاحين أن يقول مدير مؤسسة الأعلاف أن (تجفيف مئات آلاف الأطنان من الذرة على الطرقات يعود لعدم توافر الإمكانية للتجفيف الفني، ما دفع الفلاحين للعودة إلى التجفيف التقليدي تحت أشعة الشمس)، هل يعني هذا ان على الفلاحين أيضا تأمين المجففات على حسابهم!
أين التنظيم الفلاحي؟
إن تحميل المسؤولية لوزارة الزراعة التي لم تقنع اللجنة الاقتصادية بالموافقة على إنجاز الحد الأدنى من المجففات لا يعفي التنظيم الفلاحي من المسؤولية، فلم نقرأ أنه تابع موضوع المجففات سواء لدى وزارة الزراعة أو لا اللجنة الاقتصادية أو حتى رئاسة الوزراء، كما لم يطلب ممثلو التنظيم في مجلس الشعب جوابا خطياً عن أسباب عدم إنجاز عقد المجففات المطروح للتنفيذ منذ عام 2019 .
لا يكفي تأكيد الجهات الحكومية أنها تسعى لزيادة محصول الذرة الصفراء بدلا من استيرادها لأهميتها البالغة لقطاع الدواجن ومعامل الزيوت، ولا يكفي أن تشجع وزارة الزراعة على زيادة المساحة المزروعة بالذرة، فالأمر يحتاج من التنظيم الفلاحي لمتابعة مستمرة سواء لدى الجهات الحكومية والضغط عليها في مجلس الشعب لتأمين مستلزمات هذا المحصول وبأسعار مجزية للفلاح منعا لتعريضه لمفاجآت بسبب التقصير بتأمين المجففات كي لا يتعرض محصوله للتعفن أو الرطوبة فلا تشتريه أي جهة من القطاعين العام والخاص!
مشاهد تفضح التقصير
إن توجيه محافظ حلب بتخصيص كامل طريق حلب ـ الرقة بطول 130 كيلومتر لفرش الذرة الصفراء لتجفيفها بأشعة الشمس لتمتص مياهها ورطوبتها يفضح تقصير الجهات الحكومية المعنية بمختلف متدرجاتها ومسمياتها التي لم تعجز، بل لم تكترث لتأمين المجففات الآلية بدلا من تعريض محصول استراتيجة لاحتمالية عاصفة مطرية جديدة تطيح بجهود الفلاحين وتكبدهم خسائر لن تغطيها أي تعويضات حكومية هزيلة!!
المسؤولية لا يتحملها القطاع الخاص فآخر اهتماماته خسائر الفلاحين وإنما تتحملها مؤسسة الأعلاف أولا، وبعدها اللجنة الاقتصادية، بل نستغرب أن تقوم وزارة الزراعة بتشجيع الفلاحين على زراعة الذرة قبل تأمين مجففاتها الآلية، أما طلب الجهات الحكومية لمؤسسة الأعلاف للتريث بإنجاز مجففين فقط ، فيثير الكثير من التساؤلات حول الاهتمام اللاجدي للجهات الحكومية بالقطاع الزراعي!.