دراساتصحيفة البعث

بريطانيا.. قصة صعود وسقوط الامبراطورية

هيفاء علي

قصة صعود وسقوط بريطانيا هي أكبر شاهد على الحضارات والمجتمعات التي ترتفع وتصل إلى ذروتها، ثم تبدأ ببطء في الانهيار. في بداية القرن السادس عشر، كانت إنكترا تعتبر دولة متخلفة، وقليلة السكان، ولكن ثورة وسائل الملاحة، وفتح طرق التجارة البحرية وفرت نقطة انطلاق لنفوذها العالمي المتزايد. وبالتدريج، حلت السفن الأطلسية محل السفن الحربية القديمة المستخدمة في الحروب والقرصنة.

شكل استبدال الطاقة البشرية بالرياح والطاقة الكيميائية الفيزيائية للمراكب الشراعية ثورة في العالم البحري، حيث أتاح غزو البحر والمحيطات الانتقال من تجارة البحر الأبيض المتوسط ​​إلى التجارة الأطلسية، مع نمو غير مسبوق في تبادل السلع والمواد الخام. وحتى أوائل القرن الثامن عشر، كان الاحتلال البريطاني والأوروبي بشكل عام مقصوراً على الشرائط الساحلية والقواعد البحرية، لكن احتلال المناطق النائية كان أحد المنتجات الثانوية للثورة الصناعية التي ساعدت في تمهيد الطريق للثورة الصناعية نفسها. وليس من قبيل المصادفة أن الثورة الصناعية قد تطورت في إنكلترا التي، بفضل قوتها البحرية، أوجدت رابطاً مع المستعمرات التي زودتها بالمواد الخام، واستهلكت المنتجات الجديدة، وأتاحت فرصاً للثروة والأسواق الجديدة طوال الوقت. لقد مكنت القوة الاقتصادية والعسكرية إنكلترا من إنشاء إمبراطورية استعمارية لا مثيل لها خلال فترة حكمها. لكن الثورة الصناعية دمرت العالم القديم من جميع جوانبه الإنتاجية والاجتماعية من خلال تصادم الرأسمالية مع الماركسية، وحتى الديموغرافية والسياسية والمالية، وغيرت طريقة الحياة في المدن على حساب المناطق الريفية.

وبالتوازي مع هذا التطور العالمي، هناك تطور في الثقافة والتكنولوجيا التي وجدت في الجامعات مركزاً لنمو لا مثيل له، حيث غدت الجامعات مراكز امتياز للطبقة الحاكمة للإمبراطورية، ما جعلها قادرة على مواجهة التحديات التي يفرضها السياق العالمي الجديد بالإبداع والمعرفة.

هكذا أصبحت لندن مركزاً عقدياً مالياً وتأمينياً للعالم بأسره، حيث تم تدريب مصرفيين وشركات تأمين جديدة من أجل نمو الإمبراطورية، وتدريبب الطبقة الحاكمة عالية المستوى، وجعلها متفوقة على الدول المنافسة الأخرى، وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت إنكلترا الإمبراطورية المهيمنة في العالم، ولكنها بعد ذلك، بدأت في الانحدار ببطء.

منذ الثلاثينيات، أصبح الانحدار واضحاً بشكل متزايد، بسبب تقلص قدرة النخبة الحاكمة على مواجهة التحديات الجديدة بشكل فعال، والبقاء أكثر ميلاً إلى تعظيم أمجاد الماضي القريب. وبوهمها بالقوة المكتسبة في عشرينيات القرن الماضي، قررت، كعمل من أعمال القوة، فرض إمكانية تحويل الجنيه إلى ذهب، حيث انتقدت مجموعة “ماكينزي” هذا الاختيار الذي اعتبرته كارثة مرتبطة بعدم قدرة الطبقة الحاكمة على فهم التغييرات التي تحدث في العالم وتبني سلوك مبتكر.

لقد أثر انهيار المبادرة على المستعمرات التي ظهرت فيها أولى بوادر المعارضة، ومن ثم كانت المواجهة الضائعة بشأن الحفاظ على قناة السويس، عام 1956، والتي فازت بها مصر أخيراً. ضربت الثورة المالية مع نهاية معيار الذهب للتبادل المالي البريطاني من خلال إجبارها على قبول مساعدة صندوق النقد الدولي، وكانت علامة على الانفصال عن الماضي والبداية الحقيقية للانحدار. لقد أدى صعود مارغريت تاتشر، وخطأ اتباع الليبرالية الجديدة المالية التي فرضتها الولايات المتحدة إلى انهيار ثقافي حتى قبل الانهيار الاقتصادي، كما أدى تبني الليبرالية المالية غير النقدية إلى تدمير الإنتاج الصناعي الذي كان ممتازاً في العديد من القطاعات، ناهيك عن الانحدار السياسي والخضوع للولايات المتحدة.

أخيراً، تكفل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي اعتبره محللون ثمرة العمى السياسي، وابن النزعة الانتحارية، بمواصلة الانحدار والسقوط، حيث بدت الطبقة السياسية نفسها غير ملائمة لمهمة الحكم وللتغيير الذي يتطلبه التاريخ. ولطالما كانت الولايات المتحدة على نفس المسار، حيث تفتقر إلى القادة الحقيقيين، وغير قادرة على إيجاد حل للمشاكل التي تعتقد أنها ستحلها بنفس الطريقة التي خلقتها. وهكذا بدأ الاتجاه المتقلب للدولار، ومقاديره اللامتناهية.

عندما تنعدم صفات الطبقة السائدة، كما يظهر من تاريخ إنكلترا وتاريخ الولايات المتحدة، تبدأ الحضارات والمجتمعات في التفكك والانهيار، ثم يبدأ الانهيار العميق الذي لا يكون شللاً للممتلكات الطبيعية للطبقة الحاكمة، بل انهياراً لتراثها الاجتماعي الذي يعيق ويثبط أي عمل للتجديد، ويحدث انهيار المجتمع عندما يبدأ الانحطاط لفترة طويلة. بعبارة أخرى الحضارات لا تختفي بالموت العنيف بل بالانتحار.