في مشافي الخاص والعام.. أخطاء طبية بـ “الجملة” و10 دعاوى شهرياً في دمشق!
على الرغم من سماعنا لحدوثها بشكل متكرّر شهرياً في المشافي الخاصة والحكومية وفي العيادات الخاصّة، أو حتى في المراكز الصحيّة، إلّا أن عدم وجود قانون خاص بالمسؤولية الطبيّة في سورية إلى اليوم جعل من تكرار الأخطاء الطبية ظاهرة خطيرة أفقدت المرضى ثقتهم بمن بقي من أطباء ذوي خبرة في البلد، ولاسيّما أن ازدياد هذه الأخطاء ترافق مع هجرة الكثير من الأطباء السوريين إلى الخارج وبقاء المرضى اليوم “كحقل تجارب” تتقاذفهم المشافي الخاصّة والحكومية التي لا زالت على عدم وفاق بين بعضها، تتبادل أصابع الاتهام وترمي كرات الأخطاء الطبية بمرمى الأخرى تحت حجج الخبرات والمستلزمات الطبية وضغط العمل في المشافي الحكومية على نقيض الخاصة.
ضعف الثقافة
لم تقلّص التطورات الحاصلة في الطب هذه الأخطاء، بل على العكس بتنا نلحظ تزايدها يوماً بعد الآخر، ففي الوقت الذي كانت هذه الأخطاء حكراً على المشافي الحكومية قبل عشرات السنوات أصبح حدوثها اليوم في الخاص بشكل يوازي العام، وفي الكثير من الأحيان لا تظهر النتائج السلبية لما يحدث من أخطاء بشكل مباشر ولحظي، على خلاف تلك الأخطاء المؤدية للموت المباشر، إلّا أن الأخطاء ذات النتائج غير المباشرة تفوق المباشرة بعددها وكثرة حصولها وندرة اكتشاف ذوي المريض لها، وبالتالي ضياع حقهم القانوني، إذ يؤكد أحد الممرضين في مشفى خاص قيام الكثير من الأطباء بأخطاء غير مقصودة وغير مرئية للمريض وذويه، ليظهر أثرها العكسي بشكل تدريجي دون علم المريض بأن السبب “خطأ طبي” لم يشعر به، وفي الكثير من الأحيان يفارق الحياة بعد أشهر، ليأتي التقرير الطبي بأن سبب الوفاة هو تدهور صحته نتيجة مرضه الأساسي، ولأن مصلحة المشفى الخاص والعام تقتضي التكتّم على مثل هذه الأخطاء وبسبب ضعف الثقافة الطبية للمريض، نجد أن الكثير من الأخطاء لم يتمّ الإفصاح عنها ووصولها إلى نقابة الأطباء والمحاكم!!.
شكاوى كيدية
وفي الوقت الذي نقرأ فيه بشكل دوريّ عن حوادث وفاة في المشافي الخاصّة والحكومية نتيجة الخطأ الطبي نجد أن التفكير لا زال محصوراً بجودة الطبابة والاستشفاء في الخاص لأسباب عديدة، تبدأ بالاهتمام والنظافة والخبرات المستقطبة والمعدات الحديثة وغيرها من الأسباب التي تجذب المريض حتى لو كلّفه العلاج مبالغ مرتفعة. وهنا يرى الدكتور ماهر كنعان مدير مشفى الرازي الخاص أن الأخطاء الطبية في مشفى الرازي تكاد تكون معدومة، موضحاً الفرق بين الاختلاطات والتي هي جزء من العمل الطبي، وبين الخطأ الطبي والذي هو عبارة عن إجراء معاكس للبروتوكولات المعتمدة. وأرجع كنعان قلّة الأخطاء الطبية في المشافي الخاصة، مقارنة بالحكومية، إلى الخبرات الطبية المستقطبة في الخاص، إذ يشترط على الطبيب أن يكون ذا خبرة لا تقلّ عن ثلاث سنوات ويملك جدولاً بالعمليات التي أجراها سابقاً، على عكس الحكومية التي تحتمل وجود جزء من الأطباء الذين لا زالوا قيد التدريب والتأهيل لأغراض تعليمية، كما أن الأجهزة المعتمدة في المشافي الخاصة تجري صيانتها وتحديثها بشكل دوريّ.
وحول طريقة تعامل القانون السوري مع هذه الأخطاء في حال حدوثها، وجد مدير المشفى أن العمل الطبي له طبيعة خاصة ويجب التعامل معه بحساسية ودقة كبيرة، فحين يتمّ الادّعاء على مشفى أو طبيب يجب اعتماد القضاء على خبرات مخضرمة تضمّ أشخاصاً حياديين ليس لهم مصلحة مع الطبيب “المتهم” ولا مع ذوي الشكوى، ناهيك عن ضرورة التمييز بين الشكاوى الحقيقية والكيدية والتي تكثر هذه الأيام لأسباب معيّنة.
شركات تأمين
ولأن أصابع الاتهام تتجه دوماً إلى المشافي الحكومية بكثرة الإهمال والأخطاء الطبية، توجّهنا بسؤالنا إلى الدكتور عصام الأمين مدير عام مشفى المواساة الذي نفى هذه التهمة جملة وتفصيلاً كون القائمين على العمليات في هذه المشافي هم من القامات العلمية وأساتذة الجامعة المختصين، أما الشمّاعة التي يعلّق عليها أصحاب المشافي الخاصة أخطاء المشافي الحكومية بأن طلاب الجامعات هم من يقومون بالعمليات فهذه حجة باطلة -بحسب الدكتور الأمين- ولاسيّما أن جميع المشافي التعليمية في العالم يتدرّب فيها الطلاب لكن تحت إشراف أساتذة، مشيراً إلى أن الاستطبابات في المشافي العامة صحيحة علمية وأكاديمية ليست بقصد الربح على عكس الخاص، لافتاً إلى أن التجهيزات الطبية يتمّ تحديثها بشكل دائم في حال توفر العامل المادي. وانتقد الأمين الشائعات التي تصدرُ بين حين وآخر حول كثرة الأخطاء الطبية في العام، خاصّة وأن بعض المشافي الخاصة تقوم بتحويل المرضى الحرجين إلى المشافي الحكومية لثقتهم العالية بالخدمات الطبية المقدمة لدينا ضمن مستويات ومعايير عالية، ولم ينفِ مدير مشفى المواساة حصول الأخطاء في جميع مشافي العالم، لكنّ يجب العمل على الاقتداء بدول العالم بوجود شركات تأمين للأخطاء الطبية تعوّض المتأذي، لافتاً إلى ضرورة عدم سجن الطبيب، فالخطأ وارد بشكل غير مقصود، الأمر الذي يحتّم وجود تعاون بين وزارة العدل ونقابة الأطباء ووجود لجنة من ذوي الخبرة للتعامل مع قضايا الأخطاء الطبية، والتي للأسف لا تطبّق عملها في الكثير من الأحيان على أرض الواقع.
عقوبات
وبالرجوع إلى القضاء السوري، تحدث القاضي محمد خربطلي” رئيس محكمة بداية الجزاء السابعة بدمشق” عن عدم وجود تعريف واضح وصريح للخطأ الطبي في القانون السوري لعدم وجود قانون خاص بالمسؤولية الطبية في سورية، فقد عرف الفقهاء الخطأ الطبي أنه انحراف الطبيب عن السلوك الطبي العادي والمألوف، وما يقتضيه من يقظة وحذر لدرجة يهمل فيها الطبيب مريضه مما يسبّب إلحاق الضرر بالمريض، أما المحاكم الناظرة بالأخطاء الطبية فتختلف باختلاف المسؤولية الطبية، فإذا كانت مسؤولية الطبيب مسؤولية مسلكية تنظر اللجنة المشكلة بقانون التنظيم الطبي والمؤلفة من قاضٍ وأطباء وتتمّ ملاحقته مسلكياً وتفرض عليه عقوبات مسلكية، أما إذا كانت مسؤوليته مدنية فيتمّ رفع الدعوى أمام المحاكم المدنية، وفي حال كانت مسؤولية الطبيب جزائية فهنا تتمّ ملاحقته أمام محكمة صلح الجزاء، إذا نتج عن خطأ الطبيب إيذاء أو عجز وأمام محكمة بداية الجزاء في حال أدى الخطأ للوفاة، بحيث تتمّ ملاحقة الطبيب جزائياً وتصدر بحقه عقوبة جنحوية الوصف كون خطأه غير مقصود، وتتراوح العقوبات من حبس لمدة شهرين إذا كان الضرر الناتج عن الخطأ الطبي لا يتجاوز تعطيلاً عن العمل أو إيذاء، وتصل العقوبة إلى الحبس لمدة ثلاث سنوات كحدّ أعلى إذا أدى الخطأ الطبي إلى الوفاة.
دعاوى شهرية
وحول عدد الدعاوى المختصّة بهذا الموضوع، أشار رئيس محكمة بداية الجزاء السابعة بدمشق إلى عدم وجود إحصائية رسمية بعدد الدعاوى المرفوعة أمام القضاء، لكن وسطياً في دمشق يتمّ تحريك من ٥ إلى ١٠ دعاوى شهرياً بجرائم تسبّبت بالإيذاء والوفاة نتيجة أخطاء طبية، وتكون بأشكال مختلفة، منها ناتج عن خطأ الطبيب في التشخيص أو العلاج، ومنها أخطاء تخدير ومنها أخطاء جرّاحين، وبعضها عائد للمشافي من تعقيم أو نقص بالأدوات أو الكادر التمريضي، منوّهاً بأن الخطأ الطبي يمكن إثباته بكلّ وسائل الإثبات، بما فيها الخبرة وشهادة الشهود والقرائن القضائية، فالخبرة لها أهمية كبيرة في إثبات الخطأ الطبي وهي أحد أهم الوسائل في الإثبات، إلّا أن القاضي غير ملزم بالأخذ بتقرير الخبرة وله سلطة واسعة في تقييمها ويمكن للمحكمة إعادتها والأخذ برأي مخالف لرأي الخبير إذا رأت أن استنتاجاته غير صحيحة ومخالفة للواقع ومتناقضة مع الوثائق المقدّمة بالدعوى، كما يشترط في تقرير الخبرة أن يكون واضحاً لا يشوبه غموض أو عدم دقة وأن يثبت خطأ الطبيب على وجه الجزم واليقين، لافتاً إلى أنه يتمّ اختيار الخبراء من الأطباء الأكفاء والاختصاصيين لإجراء الخبرة.
ضرورة ملحة
القاضي خربطلي تحدث عن صدور عدة تعاميم، وآخرها في الشهر السادس من هذا العام من قبل وزير العدل، والتي تؤكد أنه في حال حدوث وفاة أو عجز وظيفي للمريض يجب عدم اتخاذ أي إجراء بحق الطبيب أو توقيفه إلا بعد الاستعانة بخبرة طبية جماعية اختصاصية لتحديد سبب الوفاة أو الإيذاء المنسوب للطبيب، مشيراً إلى أن كافة الدعاوى المرفوعة أمام القضاء يتمّ البحث والتحقيق فيها وفق القانون والأصول، وفي حال ثبوت مسؤولية الطبيب يتمّ الحكم عليه جزائياً وإلزامه بتعويض المريض أو المضرور ويمكن منعه من مزاولة المهنة، لافتاً إلى أن عدم وجود قانون خاص بالمسؤولية الطبية إلى اليوم وملاحقة الطبيب وفق قانون العقوبات العام بجريمة غير مقصودة يؤدي أحياناً إلى عدم إنصاف المريض المتضرر إن كان خطأ الطبيب لا يشكل جريمة جزائية، وبالتالي من الأفضل سنّ قانون خاص بالمسؤولية الطبية كما هو في العديد من الدول العربية كالأردن والإمارات ولبنان ينظم قواعد خاصة بملاحقة الأطباء والجرائم المسندة إليهم وتحديد أخطائهم ومسؤوليتهم بشكل فني ودقيق ومهني.
ميس بركات