ماذا عن النزوح إلى الريف؟
علي عبود
مع صعوبات الحياة اليومية لملايين الأسر السورية يبرزُ السؤال: هل لا يزال الحضر يستقطبُ أهالي الريف؟
صحيح أن الخطط الخمسية في عقدي السبعينيات والثمانينيات رصدت اعتمادات كبيرة لإنعاش الريف السوري، لكن بقيت مراكز المدن تستقطبُ آلاف الشباب الباحث عن فرص عمل وحياة أكثر رفاهية. وعلى الرغم من النزوح الدائم إلى المدن، فإن خطط التنمية، وخاصة ما يتعلّق منها بكهربة الريف، ونشر أبنية التعليم ما قبل الجامعي، وربط القرى بمراكز المدن بشبكة حديثة من الطرقات، وتأمين المراكز الصحية.. حدّ كثيراً من أعداد النازحين باتجاه المدن، بدليل أن سكان الريف لا يزالون أكثر من سكان الحضر.
ونشير إلى أن محاولات تشجيع الهجرة المعاكسة من المدن إلى الريف لم تنجح، لا في تسعينيات القرن الماضي مع نهج الأولوية للزراعة، ولا في العقد الأول من القرن العشرين مع تطبيق نهج اقتصاد السوق الاجتماعي، وبقيت الحياة في المدن مع زيادة النزعات الاستهلاكية بجوانبها المختلفة مفضّلة لشباب الريف، وبالتالي لم يتوقف النزوح من الريف إلى المدن. ولكن بدأنا نتابع الآن نشاطاً باتجاه الريف، وتوقفاً قسريّاً لجيل الشباب الجديد عن النزوح باتجاه الحضر، بل إن هناك أعداداً من الناس، وإن كانت الأرقام لا تزال متواضعة، تعود إلى قراها، وخاصة المتقاعدين، حيث الحياة في الريف أقل قسوة من الحضر!.
ما حصلَ خلال السنوات الماضية، بعد تآكل القدرة الشرائية للأجور، والارتفاع المستمر لجميع السلع والخدمات، غير المتناسب مع الدخل، دفع آلاف العاملين بأجر إلى الانتقال إلى مراكز المدن القريبة من قراهم للاهتمام بالأراضي التي هجروها ليعيدوا استثمارها مجدداً، لأنها تحوّلت إلى مصدر وحيد لتحسين حياتهم المعيشية.
وقد لا يكون النزوح باتجاه الريف جسدياً، إذ يصعبُ على من وُلد وعاش في مدن استهلاكية، الانتقال فجأة للعيش الدائم في ريف، الخدمات فيه متواضعة مقارنة بالحضر، فالنزوح هنا هو بالتواصل الدائم وليس المتقطع مع الريف، بهدف تأمين دخل إضافي وكافٍ لتأمين مستلزمات الأسرة.
ومن المؤسف أن الحكومات المتعاقبة لم تهتمّ خلال السنوات القليلة الماضية بمساعدة سكان الريف على زيادة مصادر دخلهم، كما لم تشجّع من يسكن المدينة ويمتلك أرضاً في الريف على استثمارها بمشروع صغير، قد يشجعه مستقبلاً للانتقال إلى العيش قربه، سواء في القرية نفسها أو المدينة المجاورة.
نعم، ما من خطط للنهوض بالمشاريع الصغيرة في الريف السوري لإنتاج السلع التي نستوردها بما يكفي الأسواق مع فائض للتصدير، فالإمكانيات الهائلة الكامنة في الريف كفيلة بتأمين الاكتفاء الذاتي من السلع، سواء الخضار والفواكه أم اللحوم!.
تصوّروا حجم النتائج المذهلة لو أن الحكومات المتعاقبة ركّزت عملها على دعم الريف كي ينتج احتياجاته فقط من اللحوم والألبان والأجبان والبيض والزيوت والسمون والفواكه والخضار، وأيضاً الخبز و… إلخ؟.
وفي حين لا تجد ملايين الأسر السورية في المدن مصدر دخل يؤمّن لها شراء السلع الغذائية الأساسية التي طارت من موائدها، فإن سكان الريف أو من يعود إليه بعد نزوح طويل بمقدورهم مع قليل من الدعم إنتاج احتياجاتهم الغذائية مع فائض للتسويق يؤمّن لهم شراء الحاجات الأخرى.
الخلاصة: لقد آن للحكومة الحالية، أو أي حكومة قادمة، أن تركّز على خطط تشجّع على النزوح من الحضر إلى الريف، والنزوح قد يكون جسدياً أو عبر مشاريع صغيرة ينفّذها السوريون المُتحدِّرون من الريف والساكنون في المدن، وإذا لم تفعلها أي حكومة، فستبقى ملايين الأسر السورية عاجزة عن تأمين الغذاء الكافي، ما سينعكس أكثر فأكثر على تدهور الإنتاج الزراعي والصناعي!