وآفتُه من الفهْمِ السقيمِ
عبد الكريم النّاعم
بعض المواقف، من خلال ما يُسمع فيها، تكشف عمْق التناقضات، إنْ على المستوى المعرفي، وإنْ فيما ينتج عنها.
في ثمانينيات القرن الماضي، دُعيتُ لحضور قراءة فاتحة خطوبة، وكان المدعوّ لقراءتها وإعلان الخطوبة في الثمانين من العمر، وله احترامه في مجتمعه، وخلال الحديث المُتداوَل والذي لا رابط محدّداً فيه، ذُكر اسم المذهب الوهّابيّ، وكنّا آنذاك نواجه تطرّف حركة الإخوان المسلمين، والتي اعتمدتْ على الاغتيالات الفرديّة في البداية، بهدف شقّ وحدة المجتمع السوري على أسس مذهبيّة طائفيّة، فتحدّث أحد الموجودين من جيل أنا منه، وبدأ يشرح شيئاً تاريخيّاً عن نشأة هذا المذهب، وإشكالية تأسيسه، وأنّ أوّل خطوة في هذا الطريق أسّسها جاسوس إنكليزي، فالتفت الشيخ الذي سيقرأ الفاتحة، وفي وجهه علامات الرفض لهذه المعلومة، وعلّق بحزْم لا يقبل المراجعة، وقال لذلك الشاب المتعلّم المتفهِّم: “لا.. عمّي لا..، لا تغلطّ هدول بالسعوديّة “ضْروبْ ستانْت”، وحين بدأ ذلك الشاب يشرح له أنّ “البروتستانت”، وليس “ضْروبْ ستانْت” هو مذهب مسيحي، اعترضه الشيخ بما يُشبه الزّجر، والتّفهيم، وقال: “لا عمي لا لا تغلط، أنا بعرف أنّو أبوك آدمي”، فالتفتَ إليّ الشاب شبه مستنجد، فأشرتْ له برفع يدي الاثنتين، بما يعني أنْ “لا حول ولا قوّة إلاّ بالله”، وكانت الأغلبيّة من الموجودين كالأطرش بالزّفّة.
*****
في بداية انتشار الحريق الداعشي الإخواني الصهيوني الأمريكي، كثُر وجود خيمات التعزية، فأبناء الأحياء المّستهدَفة لم يكونوا يملكون سلاحاً للمواجهة، وكان يُقتَل منهم مَن يُقتَل في كلّ يوم، ويأتي الناس للتعزية، وللمواساة. وفي إحدى الخيّم تحدّث رجل محترم، ومثقّف، ومعروف كشخصيّة، وحضّ بطريقة لطيفة مَن يملك على تقديم بعض ما لديهم للأسر التي فقدتْ مَن يعيلها، وأن يكون التعاون الاجتماعي علامة من علامات المواجهة، فتصدّى له من بين الموجودين شخص مُعظَم ما في بيته، وما في يده، وما يُدرّ عليه من أناس فقراء، فهو واحد من الذين يقومون ببعض الطقوس الدينيّة، ويتقاضى على ذلك ما يُعطى له من أموال.. تصدّى له وقال: “بدّكْ ايّانا نْطَعمي اللّي الله حَرَمو؟!! شو إنت أفْهمْ من الربّْ”؟!! فقال له مَن فُرِض عليه الحوار: “اسمعْ يا سيّد، أنت تتبنّى موقفاً ندّد به ربّ العالمين في قرآنه الكريم، فقد جاء في سورة “ياسين” (وإذا قيلَ لهمْ أَنْفقوا مّما رزَقَكمُ اللُه، قال الذين كفروا للّذينَ آمنوا، أَنُطْعِمُ مَن لوْ يشاءً اللهُ أَطْعمَهُ، إنْ أنتمْ إلاّ في ضلال مُبين)، انتبه يا سيّد، أنّ هذا كان قول الذين كفروا، فاحذرْ ممّا تقولُه لأنّ القولَ واحد، فوقفَ ذلك الرجل واقفاً، وعلى وجهه علامات الامتعاض، وغادر الخيمة.
حين حدّثني بما جرى معه، قلتُ له: “ما تفضّلتَ به يثير في ذاكرتي قولاً للإمام عليّ (ع)، جاء فيه: “إنّ المسكين رسولُ الله، فمَنْ مَنَعَه فقد منَعَ الله، ومَن أعطاه فقد أعطى الله، لأنّ الله هو الذي حَرَمَه الرّزق، فكأنّه أرْسلَه إلى الغنيّ لِيِمْتَحِنه”.
ترى!! هل يتنبّه مَن يملكون إلى ما جاء في القرآن الكريم، وإلى ما جاء على لسان الإمام علي (ع)، فيتخلّوا عن نُتَف ممّا لديهم، وهم أدرى كيف جمعوها، وأيّ طريق سلكوا حتى استطاعوا أن يجمعوا ما اختزنوه واكتنزوه؟!!.
أيام الشدّة التي تُحيط بنا تكشف معادن الرجال، أقول هذا وأنا أعلم أنّ البعض لو أسمعْتَه كلّ ما ورد من آيات الكُتب المُنْزَلة، ومن الأحاديث الحاضّة سيظلّ يقول كما قال مَن غادر خيمة العزاء!.
aaalnaem@gmail.com