الشرق في مواجهة عقلية للولايات المتحدة
عناية ناصر
إن اليقين الاقتصادي والاستقرار الأمني هما العاملان الرئيسيان اللازمان لنجاح عملية التنمية، ولا ينبغي أن تتحقق هذه للحكم المحلي فحسب، بل للحوكمة العالمية أيضاً. إن التنمية والأمن هما المحركان الرئيسيان للحوكمة، وعاملان مهمّان جداً للحفاظ على الاستقرار.
إن عدم الاستقرار وانعدام الأمن وعدم اليقين الاقتصادي ليست مجرد ظواهر طبيعية، فهذا الوضع ناتج عن اضطراب التنمية الذي يضع طموحات هيمنة القوى قبل حياة الناس. وعليه فإن سقوط دول الشمال العالمي (الولايات المتحدة وأوروبا) في ركود اقتصادي كبير لا ينفصل عن العقلية الفردية والاقتصاد الاحتكاري، حيث يمكن بوضوح رؤية كيف قرّرت المملكة المتحدة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي عندما بدأ الركود الاقتصادي في جلب الإفلاس للمنطقة الإقليمية للاتحاد الأوروبي.
في الغرب، ليس هناك إحساس بالتضامن والمساعدة المتبادلة، فالمملكة المتحدة على سبيل المثال لا تريد أن يتمّ إشراكها في ديون اقتصادية ضخمة من قبل دول أعضاء آخرين في الاتحاد الأوروبي، بينما في المقابل تدعم الصين على وجه التحديد، من خلال مبادرة الحزام والطريق، بقوة، العديد من القطاعات الاقتصادية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حتى تتمكّن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، مثل البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، من البقاء على قيد الحياة في التنمية الاقتصادية، خاصةً وأن هذه الدول واجهت وضعاً اقتصادياً متدهوراً بسبب الوباء وآثار العقوبات الأمريكية على روسيا، وبالتالي أدّى هذا الوضع المتدهور إلى اضطرابات اجتماعية، وعدم استقرار اقتصادي ومستقبل قاتم. وبمرور الوقت، وقع عدد متزايد من دول الاتحاد الأوروبي في مصاعب اقتصادية، لكن قامت الصين بمساعدتهم بشكل كبير من خلال مشتريات واسعة النطاق لمنتجاتهم.
أعربت العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن رغبتها في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يؤكد أنه لا توجد روح من المساعدة المتبادلة ولا تنمية مشتركة في اقتصاديات الرأسمالية الغربية، لأن العقلية السائدة هي عقلية القضاء على بعضهم، وألعاب محصلتها صفر تؤكد “أنا أفوز، أنت تخسر”. هذه العقلية تخاطر بالفعل بالدمار الاقتصادي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى إلحاق الضرر بالقطاع الاجتماعي، وعدم اليقين السياسي مثل الفوضى الاجتماعية، وعدم اليقين الاقتصادي العالمي.
إن انسجام الدولة وتنميتها الاقتصادية السلمية، ووضع الناس في المقام الأول، ليست ظاهرة طبيعية، بل يجب أن تكون جهداً متضافراً في سياق العلاقات الدولية. وفي هذا السياق، تختار الصين الحوار لحلّ النزاعات والمشكلات بدلاً من مواصلة العمليات العسكرية والترهيب والعقوبات، فالحوار هو نهج لحلّ المشكلات متجذر في تقاليد الحكمة الآسيوية، إضافة إلى رؤية الشركاء كموضوعات للحوار، وليس كأشياء ثانوية كما هو معتاد في الطريقة الغربية.
صحيح أن الصين والدول الشريكة لها لا تعيش بدون مشكلات وصراعات، لأن النزاعات هي حالة حتمية يمكن أن تحدث في إطار التعاون. ومع ذلك، فإن الصين تتبع أساليب للتغلب على الصراعات، واختيار حلّ أي مشكلات وتناقضات عن طريق الحوار المتماثل كأصدقاء، حيث تدير الصين الحديثة سياساتها واقتصادها على أساس القيم الفلسفية لأسلاف الصين التي تؤكد على “حياة الناس” كأهداف أساسية لجميع قطاعات التنمية، كما تدعو إلى التنوع والشمولية والثقة المتبادلة والتعاون لمواجهة التحديات العالمية بشكل مشترك.
لقد تبنّت الصين القيم الآسيوية، وعادت من خلالها إلى الحياة لبناء “تنمية مشتركة”، وأصبحت أملاً في انتعاش الاقتصاد العالمي في خضم كساد كبير يضرب أوروبا وأمريكا الشمالية، وذلك لأن ثقافة “المساعدة المتبادلة” هي نقيض الفردية التي تجلب العديد من النتائج المدمّرة لعلم النفس البشري، والتنمية الاجتماعية التي تقوّض في النهاية التنمية الاقتصادية على نطاق واسع.
تركز سياسة الصين الخارجية القائمة على بناء علاقات متناغمة أولاً على الدول المجاورة، ثم على الدول النامية، وفي النهاية على الدول المتقدمة، لأن بناء علاقات متناغمة على أساس المساعدة المتبادلة مع الجيران هو قوة ثقافية آسيوية، وهذا هو جوهر القوة في مكافحة الركود الاقتصادي الدولي، وعدم اليقين العالمي الحالي.
يعتبر الاقتصاد الآسيوي الأكثر استقراراً، والظروف السياسية أساساً قوياً وأيضاً استراتيجية لمواجهة الجهود الخلافية التي يقوم بها الشمال العالمي لتحطيم القوة الآسيوية. ولهذا تبحث دول الشمال، وخاصة الولايات المتحدة وحلفاءها، دائماً عن أعذار، ومبررات للتدخلات السياسية في آسيا، والتي تهدف إلى تقسيم القوى الآسيوية!.