بعد شهرين من صدوره.. تقرير الرقابة المالية يثبت اختلاس 40 ملياراً في فرع حبوب حلب.. والملف طيّ الأدراج؟!
دمشق- بشير فرزان
إذا كانت قضية بحجم الدقيق التمويني والنخالة في المؤسّسة السورية للحبوب – فرع حلب لناحية الاختلاس أو هدر المال بعشرات المليارات طيّ الإدراج، فما هي القضايا التي تستحق المتابعة ووضع نهايات قانونية لها؟ ومافائدة وفاعلية التقارير التفتيشية إذا كانت عاجزة عن إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح في استعادة المال العام، ومحاسبة كلّ فاسد أو متورّط بقضايا الاختلاس والسرقة للمال العام، كما حصل في تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية الخاص بفرع حبوب حلب الصادر منذ شهرين تقريباً، والذي لم تفعّل نتائجه وتوصياته إلى الآن وبقيت حبراً على ورق، رغم أنها ترصد سرقات بعشرات المليارات، حيث جُمّدت كافة الإجراءات القانونية لأسباب مجهولة رغم تفنيد المخالفات في تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية!.
ولا شكّ أن القراءة التفصيلية لما جرى في هذه القضية يعيد للأذهان قصة “علي بابا والأربعين حرامي”، وفق ما أثبتته التحقيقات وخاصة تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية، الذي أحيل إلى المحامي العام بحلب بتاريخ 25/ 9/ 2022 والذي تضمّن كتابي فرع الجهاز المركزي للرقابة المالية بحلب /227/ تاريخ 21/8/2022 المرفق به التقرير التحقيقي رقم 1/م.ح. ش -3/م. س تاريخ 14/8/2022 المعدّ بالمخالفات المكتشفة لدى المؤسّسة السورية للحبوب فرع حلب والكتاب /228 /ص. س تاريخ 21/8/2022 المرفق به التقرير التحقيقي رقم /5/م. ز-2/م. ش تاريخ 18/8/2022 المعدّ بالمخالفات المكتشفة لدى المؤسسة السورية للحبوب فرع حلب، والذي يبيّن أنه بعد استكمال التحقيق بالمواضيع المثارة في الفرع، وجود العديد من المخالفات والتجاوزات المرتكبة من قبل بعض العاملين لدى المؤسّسة السورية للحبوب– فرع حلب، ووجّه لهم الاتهام بالتواطؤ مع بعض أصحاب المطاحن الخاصة باتباع عدة طرق، ومنها التزوير، بهدف سرقة واختلاس المال العام (سرقة مادة الدقيق) والتي نتج عنها أثر مالي مقداره أربعون ملياراً وأربعة وستون مليوناً ومئتان واثنان وثمانون ألف ليرة سورية بصورة مبدئية.
وطبعاً تقرير الجهاز المركزي أكد ما جاء في تقرير اللجنة الفنية المشكلة بالقرار الوزاري رقم /194/ تاريخ 24/1/2022 لمتابعة وتدقيق إجراءات تسليم المطاحن الخاصة، واستلام مادة الدقيق والنخالة منها وتدقيق وثائق التحليل ومذكرات المشاهدة في فرع المؤسّسة السورية للحبوب بحلب، والتي خلصت إلى اقتراح إحالة تقرير اللجنة إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بناءً على المخالفات والتجاوزات المرتكبة من قبل بعض العاملين في هذا الفرع، والتواطؤ والاشتراك مع أصحاب المطاحن الخاصة في عمليات الاختلاس، ونتيجة لذلك كافأت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أعضاء هذه اللجنة لجهودهم في كشف التجاوزات، وبعد ذلك تمّ الطعن بمصداقية ما وصلت إليه ومعاقبتها بالنقل خارج المؤسّسة رغم إثبات تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية المخالفات الواردة في تقريرها المعدّ بتاريخ 24/1/2022 إلا أن الوزارة لم تحرك ساكناً حتى الشهر السادس، حيث تمّ إرسال لجنة أخرى من الرقابة الداخلية في المؤسّسة لتعدّ تقريراً مناقضاً للتقارير السابقة، وتطالب من خلاله بطيّ تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية باستثناء قضية أكياس الخيش، على اعتبار أن كلّ ما ورد في تقرير الجهاز المركزي تتمّ معالجته وفق القوانين والأنظمة الخاصة بعمل المؤسّسة والعقود المبرمة ولا يوجد هدر للمال العام!.
وبالعودة إلى تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية الذي صدر منذ شهرين تقريباً، وأدان المتورّطين وحدّد المسؤولية عن كلّ مخالفة، واقترح العقوبات، بما فيها الحجز الاحتياطي بالقرار رقم (653/ج. م. ر) على الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتورطين (أمناء المستودعات وخبراء فرع المؤسّسة بحلب المتواجدين في المطاحن الخاصة ومندوبي دائرة التخزين ومراقبي الشراء إلى المطاحن الخاصة وأعضاء لجنة الإشراف المشكلة بموجب الأمر الإداري رقم /148/تاريخ 15/10/2020 ورئيس دائرة المخبر المركزي ودائرة الإنتاج ودائرة التسويق بالفرع ومدير الفرع وأصحاب المطاحن الخاصة)، وذلك بمخالفات ضبوط المشاهدة التي ثبت مخالفتها للواقع، ما يؤكد وفق ما ورد في التقرير حدوث تواطؤ بين العاملين في المخبر المسؤولين عن تنظيم الحركة التكنولوجية مع منظمي الضبط، وما يثبتُ ذلك هو قيام المعنيين بتخفيض نسبة استخراج مادة الدقيق عن نسبة 80% الواردة في العقد، والنقطة الأهم تتعلق بدرجة رطوبة الأقماح التي لها أثر مباشر على النواتج، حيث لوحظ ارتفاع درجة الرطوبة في كلّ المطاحن الخاصة بحلب لدرجة وصلت حتى 13.5 علماً أنه تمّت المقارنة والاستئناس بالأقماح المطحونة من مركز السبخة، حيث تمّ الشحن إلى فرع حلب وحماة في الوقت نفسه، لكن لوحظ ارتفاع الرطوبة واختلاف المواصفات في حلب فقط، علماً أن عملية الشحن تمّت في فصل الصيف (الشهر الثامن)، حيث درجات الحرارة مرتفعة، ومن غير المعقول أن تزداد درجة رطوبة الأقماح المشحونة عند نقلها من مركز إلى آخر، بل على العكس، ومن المتعارف عليه أن نسبة الرطوبة لا تتعدّى 10% حسب مواصفات القمح السوري المتعارف عليها.
وفيما يخصّ نقص مادة الدقيق في مستودع تشرين المطار، أكد التقرير إثبات النقص بمحضر الجرد المفاجئ الذي تمّ بتاريخ 1/3/2022 وبلغ /388/ كيساً، وهي تعادل 19400 كغ، ويتحمّل مسؤولية ذلك أمين المستودع الذي أقرّ بالنقص واعترف به من خلال توقيعه على محضر الجرد، وهناك مخالفات أخرى، منها إدخال سيارات محمّلة بالدقيق من المطاحن الخاصة من دون تقبين، بشكل يؤكد “حسب التقرير” التواطؤ بين العاملين لدى فرع المؤسّسة بحلب وأصحاب المطاحن الخاصة، بهدف سرقة مادة الدقيق وإخراج بعض الكميات من المادة بشكل وهميّ، وثبت ذلك من خلال تنظيم وثائق إخراج تلك الكميات دوّن فيها أرقام سيارات تبيّن لاحقاً أنها سياحية من الحجم الصغير الذي لا يمكن استخدامه لتحميل تلك الكميات الواردة في الإخراجات، وذلك وفق البيانات التي تمّ الحصول عليها من مديرية نقل حلب، “تم تحميل فان نوع هونداي 50 طناً”، والتلاعب بموضوع الإدخالات والإخراجات المتعلقة بعقود المقايضة، وعدم دقة قيود أمين المستودع من خلال الشطب والحك واستخدام المزيل الأبيض.
وبالنسبة لاختلاس كميات من مادة النخالة، ثبتَ من خلال الوثائق والمستندات قيام عامل القبان في إحدى المطاحن الخاصة بالتواطؤ مع صاحب المطحنة باختلاس 350 طن نخالة من خلال التزوير، وذلك بإخراج الكمية بشكل وهميّ ودون إخراج أصولي بموجب الإيصالات “131954- 131960″، وهذا ما أكده صاحب المطحنة بموجب كتابه المؤرخ بـ3/2/2022 الموجّه لإدارة الفرع، حيث بيّن أن هذه الكمية قام بوضعها في مستودع خاص، وأنه مستعد لإعادتها، أي بعد مرور عدة أشهر، وأن السبب بهذا الإجراء هو لتغطية عملية الاختلاس بعد اكتشافها وثبوتها من قبل لجنة القرار رقم 194 لعالم 2022 حيث تمّ توجيه عقوبة الإنذار لعامل القبان لارتكابه جرمي الاختلاس والتزوير من خلال توقيعه نيابة عن أمين المستودع، وتم تغريم صاحب المطحنة الخاصة بمبلغ زهيد وهو مخالف للمبلغ الواجب التغريم به، حيث تمّ تغريمه بمبلغ /94.5/ مليون ليرة، في حين أن المبلغ الواجب التغريم به= الكمية غير المسلمة /350/ طناً× سعر التغريم الرسمي= 350× 2700= 945.000.000 ليرة سدّد منها 94.500.000 والمتبقي الواجب التحصيل= 850,500,000 ليرة، ثمانمئة وخمسون مليوناً وخمسمائة ألف ليرة سورية. وطبعاً هذه الأرقام تثبت حجم الفساد الموجود والتواطؤ الكبير في فرع المؤسسة بحلب وأصحاب المطاحن الخاصة، وهذا الأمر موجود أيضاً في موضوع أكياس الخيش، حيث تمّ التغريم بقيمة /1015/ ليرة للكيس الواحد، في حين كان من المتوجب تغريمه وفق التعليمات الوزارية التي حدّدت سعر التغريم بمبلغ /6000/ ليرة للكيس الواحد، وذلك بعد أن ثبت حسب التقرير أنه من خلال أعمال لجنة الأمر الإداري رقم /24/ تاريخ 21/4/2022 المشكلة لدى الفرع السورية للحبوب وجود نقص بأعداد أكياس الخيش البالية والتالفة بالمستودعين /23-24/ في مركز جبرين بمقدار /306.204/ كيس.
وحول السيارات المفقودة، بيّن التقرير أنه ثبت من خلال كتاب مدير فرع المؤسسة بالقامشلي رقم /1142/ تاريخ 5/9/2022 وجود سيارات مرسلة من فرع المؤسسة بالقامشلي إلى فرع المؤسسة بحلب منذ الشهر الأول لعام 2021 وعددها /16/ سيارة محملة بكمية بلغت /596.36/ طناً من مادة القمح لم ترد بها ضبوط استلام رغم أن مدير الفرع قام بتسطير الكتاب رقم 1881 تاريخ 11/7/2021 مضمونه استلام كامل الكمية العقدية من أحد الناقلين بموجب العقد رقم 58/51 لعام 2020 وهذا دليل آخر على حالة الفوضى والإهمال المتعمّد الذي يراد منه التغطية على عمليات الاختلاس التي تمّت لدى فرع المؤسسة بحلب بالاشتراك مع أصحاب المطاحن الخاصة.
ومن المخالفات التي بيّنها التقرير، عدم اقتطاع رسم الطابع على بعض العقود وموضوع دمج الحركات، حيث تبيّن قيام المدير العام بالمؤسسة مع مديري الإنتاج والقانوني بالإدارة العامة بالموافقة على دمج حركات ثلاث مطاحن خاصة، وأن هذا الإجراء يشوبه الكثير من العيوب القانونية، وهناك موضوع إشعارات القيد المدين وعقود المقايضة وعقود الشوائب، وخلص التقرير بمقترحاته وتوصياته إلى إحالة العديد من المتورّطين إلى القضاء المختص سنداً لنص المادتين /8- 9/ من قانون العقوبات الاقتصادية رقم /3/ لعام 2013 وتحريك الدعوة العامة بحق جميع المتورطين.
بالمحصلة.. بوجود عدة تقارير، وفي مقدمتها تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية بكلّ ما فيه من إدانة، إلى جانب تقرير لجنة القرار الوزاري رقم /194/ الذي كشف كافة التجاوزات وقدّم الأدلة والوثائق بكلّ مخالفة.. أليس من المفترض أن تتحرك كافة الجهات لتطبيق القوانين النافذة؟ ولماذا يؤخذ تقرير الرقابة الداخلية في المؤسّسة كمرجعية قانونية أكثر كفاءة ومصداقية من تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية وتقرير لجنة القرار الوزاري /194/ لتبرئة من وجّهت إليهم الاتهامات ووقف كافة الإجراءات القانونية؟ وهل هذا التقرير بعيد عما يمكن أن نسميه اشتباهاً بمساعي لفلفة القضية والتغطية على تفاصيلها؟!!.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تقرير الجهاز المركزي للرقابة والتفتيش بيّنة واضحة على الإدانة، لأنه صادر من أعلى جهة رقابية، ومع ذلك لم نكتفِ به، فالبحث والاستقصاء الصحفي في هذه القضية ساهم في التواصل مع العديد من الشخصيات التي كان لها دور في الإشارة إلى هذا الملف، حيث تمّ التواصل مع المهندسة التي كشفت الخيوط الأولى لهذا الملف، وتمّت معاقبتها بالنقل إلى جانب عقوبات أخرى، وببعض أعضاء لجنة القرار الوزاري رقم /194/ التي حقّقت وأثبتت المخالفات. وهنا نشير إلى ملابسات التهم التي طالت أحد مفتشي الجهاز المركزي للرقابة المالية، كما تمّ الاتصال بمدير عام مؤسّسة الحبوب بشكل غير مباشر والذي اعتذر للتريث والانشغال!.
ومن باب الاستنتاج وربط كافة تفاصيل القضية من قبل كلّ من يقرأ أو يتابع هذه التفاصيل، نسأل: لماذا كلّ من أشار إلى الهدر والخلل في فرع حبوب حلب وساعد اللجنة الوزارية والبعثة التفتيشية تمّت معاقبته، إما بإعفائه من المهام أو بنقله خارج الفرع، في الوقت الذي لم تطل العقوبات الأسماء التي وردت في تقرير الرقابة المالية المشتبه بهم، إن صح التعبير، وخاصة بعد تجميد نتائج وتوصيات تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية في قضية لها حضور اقتصادي ووطني وتهمّ الرأي العام، كونها تتعلق بـ40 مليار ليرة مجهولة المصير، وقد تكون مفتاحاً لقضية بمئات المليارات المفقودة فيما لو تمّ التوسع بالتحقيق.
ولو افترضنا خطأ الاستنتاج وعدم صحة صيغ الاتهام، حسب تقرير الرقابة الداخلية في المؤسّسة التي لا تستطيع التحقيق بموضوع لا تتجاوز قيمته أكثر من 10 ملايين، كما قيل لنا، فكيف حقّقت وغرّمت تاجراً بـ 94 مليوناً بدلاً من 945 مليون ليرة؟ وبكل تأكيد إغلاق هذه الملف وكشف ملابساته بشكل صريح وبما يجيب عن عشرات التساؤلات ذات الإجابات المفقودة، سيكون له الكثير من النتائج الإيجابية وسيعيد الثقة بكل المؤسّسات، ومن الضروري وضع هذا الملف تحت سلطة المحاسبة والمساءلة أو إعلان أحكام البراءة فيه بشكل علنيّ؟!