المضافة في جبل العرب.. مدرسة اجتماعية ومحكمة لفض النزاعات
البعث الأسبوعية – رفعت الديك
في معظم منازل محافظة السويداء يستقبلك ركن كبير يحتل جزء لا بأس به من أجزاء البيت وهو المضافة بشكلها الذي ينفرد التصميم العمراني في جيل العرب بها إضافة إلى المهام الاجتماعية الموكلة لها.. الكثير من التفاصيل تحملها قصة المضافة فهي ليس مجرد مكان للاستقبال بل تتسع دائرة مهامها لتشمل الكثير من الأدوار الاجتماعية منها والتثقيفية والتربوية إضافة إلى كونها منبرا فكريا وإن كان يتجه في محتواه الي البساطة وعفوية المشاركين الذي تتعدد مستوياتهم الفكرية و العمرية اما لطقوس الضيافة فلها أيضا خصوصيتها وأولها القهوة المرة. مهمة يومية في كل صباح على ابو حسن أن يقوم بأولى مهمه اليومية وهي صناعة القهوة المرة أو كما يقال في جيل العرب “بتعميرها ” استعدادا لاستقبال أي زائر وفي أي وقت كان مختار قرية مفعلة وهو رجل ستيني عليه أن يكون جاهز دوما للضيوف ضمن مضافته التي يقصدها العابرين والأقرباء وأصحاب الحاجة لبعض خدمات”المخترة” ويعد تقديم القهوة المرة أولى خطوات الضيافة ضمن سلسلة”القيام بالواجب” يقول أبو حسن أن القهوة يجب أن تكون جاهزة دوما في المضافة التي يرتادها ناس عادةً يكونون من مستويات وأعمار مختلفة،وهي نادٍ مفتوح يتداول فيه الناس مختلف الأحاديث عن الزراعة والتجارة والاقتصاد والسياسة، ويمرّ الجالسون بأحداث مشكلاتهم اليومية، يحلّلون فيها ما سمعوا أو عرفوا ويبحثون خلافاتهم ويقترحون حلولاً لها وقد تتحول المضافة إلى مكان لفضّ النزاعات وإنشاء التحكيم في حل الخلافات شرب العم أبو حسن الفنجان الأول من القهوة قبل أن يناولنا فنجاننا حالة تدعو الاستغراب للوهلة الأولى فالضيف أولا وفق قناعة من لايعرف تفاصيل هذه الحالة التي شرحها” المعزب” بابتسامة لاتخلو من التعبير عن إدراكه لما يجول في خاطرنا من تساؤلات وقال: “نقدم ثلاثة فناجين، لكل منها اسم خاص يحمل معنىً، فمثلاً فنجان الهيف الذي يحتسيه المعزّب أو المضيف قبل أن يمد القهوة للضيوف، ليختبر جودتها وصلاحيتها وليطمئن الضيف إلى عدم وجود عيب فيها، فيما يطلق على الفنجان الثاني الضيف، وهو الفنجان الأول الذي يقدم إلى الضيف وهو واجب الضيافة، ويجب شربه وإذا امتنع فالسبب صحي، وإذا اكتفى من الشرب يرفعه بيده اليمنى ويهزّه، أما الثالث فهو فنجان الكيف ولا يضير المضيف إن لم يشربه الضيف، ويوصف من يشربه بأنه صاحب كيف ومعتاد شرب القهوة”. عليك أن تهز الفنجان وتقول” دايمة” بينما يكمل ابو حسن حديثه عن القهوة وطرق تحضيرها حيث يجب وضعها وغليها في دلال أو معاميل تصنع من النحاس الأصفر، وعددها من ثلاث إلى خمس دلال، وتكون بأحجام مختلفة لحفظ الخميرة وصب القهوة بالفناجين، التي يكون عددها اثنين في يد المضيف وذات شكل واحد”. ابو حسن الذي تمنى ان تدوم هذه القهوة فعلا بعد غلاء أسعارها بشكل جعل الكثير ن يعتذرون عن تقديمها تحت مبررات يقدمونها للضيف كالحداد على احد المتوفين او الانشغال بأمر طارى في الصباح وغيرها من المبررات علها تقنع الضيف يتابع ابو حسن حديثه عن أدوات القهوة في محاولة منه الهروب من حالة خوف تسللت اليه على هذا المشروب الأساسي فيقول: على الرغم من تغير شكل وأدوات صنع القهوة، وتصدُّر المطحنة الكهربائية مازال يفضل استخدام الجرن والمهباج، ويشرح قائلاً: “أحمّص القهوة بالمحماصة التي تشبه الصحن وتصنع من الحديد ولها يد طويلة وساعد على شكل ملعقة طويلة لتحريك حبات البن، ثم أضعها في وعاء خشبي لتبريد حبات القهوة بعد التحميص قبل دقّها في المهباج لتنعيمها يضع براد القهوة في الركن المخصص له في المضافة الي جانب أدوات صنعها ويلتفت باتجاهنا معاودا الحديث عن المضافة فيقول انها تتحول المضافة إلى مكان لفضّ النزاعات وإنشاء التحكيم في حل الخلافات، يكون فيها المحكمون وجهاء القوم الذين يرومون إصلاح ذات البين، فتصبح المضافة مدرسة يسمع الناس فيها الحكايا والمواعظ والأشعار والقصائد التي تُمجّد الفروسية والوطنية والمناقبية. وكانت المضافة المنطلق لأول رصاصة ضد الاحتلال، لذا عمد بعض الحكام الفرنسيين في الجبل إلى إغلاق بعض المضافات،وحاول بعضهم شراء المضافة بتقديم القهوة وواجبات المضافة مجاناً ودفع كل نفقاتها، لتكون موالية للمستعمرين، لكنها أعطت عكس الغاية التي أرادوها لها. تقسيمات مدروسة فالغاية الأساسية لها منذ دخولها مع انتقال أهالي الجبل إليه، هي تحقيق الانضباط الاجتماعي حيث تحكم المضافة عادات تتمثل في مجموعة من الآداب والقواعد المتعلّقة بالتعامل بين الناس داخلها، مثل آداب الضيافة والاستقبال وقواعدالحديث والدخول والجلوس، ويحفظ هذه العادات أبناء السويداء ويقومون بتعليمها للأصغر سنّاً عن طريق الممارسة. أما مهام الضيف فتبدأ بالعبارة المعروفة “وين راحوا المعازيب”، هي العبارة التقليدية التي ينادي بها ضيوف السويداء إشعاراً لمضيفيهم بوجودهم، ليرد أصحاب المضافة بمختلف الجمل الترحيبية التي تبدأ بـ”حيّا الله”، ولا تنتهي بـ”أهلاً وسهلاً تفضلوا يا ضيوف”. يدخل الضيف غرفةً واسعة، مدخلها مستقلٌّ عن مدخل الدار ، وعادةً تكون أكبر الغرف، فعندما يمتدح ابن جبل العرب رجلاً لكرمه يقول عنه: “صاحب البيت الواسع”، أي إنه كريم مضياف، وللمضافة مواصفات معينة يتحدث عنها الباحث في التراث، تيسير العباس ويقول: “يُستَحسن أن يكون طول المضافة ضعف عرضها، ومتقابلة النوافذ وعالية السقف، في وسطها طاولة تحمل أصناف الحلوى والفواكه للضيوف، وفي زاوية من زواياها “معاميل القهوة المرة”والفناجين، وفيها مصطبة تلازم ثلاثة جدران من الغرفة وتدور معها على يمين وشِمال المدخل والجهة المقابلة للباب، تسمّى “تواطي” في اللهجة المحلية في جبل العرب، وتشكل المقاعد الخاصة بالجلوس فيما تكون الجدران الملاصقة لها هي المسند الخلفي لهذه المقاعد”. ويتابع الباحث العباس قائلاً: “يقف جميع الحاضرين احتراماً للداخل، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، إلا إذا كان من أصحاب المنزل، فلا وقوف له لأنه: لا يكرم المرء في بيته. ولا يستحب من الجالس أن يضع رجلاً فوق رجل، ففي ذلك كِبَر، وألا يستأثر بالاتكاء على الوسائد الموضوعة إلى جانبه وحده، وأن يجلس في المكان اللائق به، فصدر المضافة للضيوف والمسنين والمقدمين بين قومهم، أمّا “المعازيب” (أي أصحاب البيت) فيبقون قرب الباب ليستطيعوا خدمة الضيوف، ولا يجوز لفظ الشتائم، ولا الإسفاف في الحديث، ولا التعرض لأعراض الناس حاضرين كانوا أم غائبين”. استجارة الملهوف وكانت المضافة ملكاً للشيخ أو وجهاء القوم القادرين على الإنفاق على الضيافة فيها، وقد يشترك أكثر من رجل من الإخوة أو الأقرباء في نفقاتها، لكن مع تقدم الزمن وتغير تركيبة الناس الاجتماعية والاقتصادية، أصبح في كل دار مضافة خاصة بالبيت لاستقبال الضيوف الذين لهم حسابات أساسية في هذه المنطقة فالضيف لدى أهالي جبل العرب قُدسية خاصة، تشابه تلك التي لدى شيوخ قبائل العرب الأصيلة، فمع أن الضيف يأكل أحسن ما لدى مضيفه، وينام على أفضل فراش، يظل “المعزّب” خجلاً منه، ويخشى أن يُلام على تقصيره بحق ضيفه. ويشرح هنا الشاعر باسم عمرو الذي لقب بأمير الشعراء الشباب والذي تغني كثيرا بالمصافة ودورها استجاره الملهوف واطعام الجائع فيقول “يُجار الضيف إن كان مُستجيراً، فُيؤمّن من خوف ويُطعم من جوع، وقد يُعان على سداد دينه، أو جمع دِية يطلبها من أقربائه، وجرت العادة أنّه إذا حلَّ ضيف على مضافة، ينادي “المعزّب” على جيرانه طالباً منهم الحضور للسلام على الضيف، ويحضر الناس ويطلبون من الضيف أن يزورهم في مضافاتهم، وهكذا يسير الضيف في زيارات متتالية لمن دعاه، إلى أن يحين موعد الطعام، فيلتقي الجميع على مائدة الطعام لدى المعزّب الأول الذي حل الضيف في بيته، ويتنافس الحاضرون على دعوته، وهكذا يصبح الضيف ضيف كل البلدة وكل يحتفل بإطعامه وإكرامه”. بعد جمعنا لكل هذه المعلومات وفي كل مرة نغادر بها المنزل تلاحقنا كلمة” انستوا” لمسافة طويلة نكاد نغادر بها الحي بأكمله تعبيرا عن فرحة” المعزب” بالضيوف ويلحقها بكلمة” منعادة” طلبا بعودة الزيارة مجددا وهي تعبرا أيضا عن سعادته بالزيارة