“موظف”.. يخزي العين
علي بلال قاسم
ندرك أن زمن العز الذي نسب على مدار عقود لموظفي القطاع العام “أبناء الدولة” سبب حمولة إدارية ومالية ثقيلة على أكتاف مبرمجي الخطط ومصممي ملفات الإصلاح التنموي، لينتج لدينا لعنات “البطالة المقنعة” و”العمالة الفائضة” و”الفساد المتشعب”، ثم يؤدي كل ذلك إلى بلوغ مستوى من الاتكال والقنوط والتعمشق بعباءة الدولة كوظيفة تمنح راتباً “مقنعاً آنذاك” بأقل الأتعاب وأضعف الأشغال والكفاءة التي يستسيغها طفيليو القطاع العام ومقتنصو الفرص على حساب المستحقين من خريجين ومختصين وأصحاب شهادات ومهارات وشطارات خسرت مقاعدها وشواغرها بالاستبعاد حيناً والتطفيش حيناً وتحت التصرف أحياناً أخر..؟!
اليوم يبدو أن ترسيخ مفهوم “الشفقة” عند الشارع على الموظف ولاسيما الحكومي منه لا يشكل “فألاً حسناً” لدولة لديها جيش من العاملين كرصيد بشري وخزان تنموي وخندق مؤسساتي، إلا أن وصول هذا المؤشر الفاعل اقتصادياً واجتماعياً إلى درك متواضع من القدرة المالية والملاءة الإنفاقية المتواضعة بالقياس إلى شريحة غير الموظفين من المهن الحرة والأنشطة التجارية والإنتاجية والخدمية، يستدعي تقليباً في أوراق اعتماد فئة وترتيب “العامل” الذي لطالما كان “محسوداً” على راتبه ذي القيمة السوقية القوية واليوم أصبح “لا حول ولا قوة…”؟!
عندما قررت الحكومة أن تزج بقطاع الأعمال وأصحاب المنشآت كشركاء في استقطاب حصة من سوق العمل، بالتوازي مع تحريض المدخرات وكتل المال الخاص للتشغيل وخلق التوظيف المنتج المدعوم بذراع الإقراض البنكي عبر بوابة المشروعات الميكروية والمتناهية والصغيرة وصولاً للمتوسطة، عندها لم تدرك السلطة التنفيذية أن “جوراً” ما سيقع على عامليها وموظفيها الذين وجدوا أنفسهم – برواتبهم التي زيدت ومنحت جرعات دعم أكثر من عديدة خلال العقد الأخير – تحت رحمة “زنقة عويصة” لا تنفع فيها لا الخمسون ألفاً ولا حتى المئة ألف شهرياً، والتي كنا نحن – جيل راتب بدء تعيين لا يتعدى الـ “خمسة آلاف” – لا نحلم بها حتى في المنامات الخيالية، فالرقم الذي وصل إليه موظف هذه الأيام لا يكفي “أكلاً وشرباً” بالحدود الدنيا، هذا إذا لم نتكلم عن أولويات بدلات السكن والطبابة والملبس والتعليم والتنقل. وهنا، تبدو المقارنة واضحة وجلية بين موظف تعيس يضطر “للعيش بالحيلة وتدبير الرأس وشد الأحزمة والترشيد الصارم المكحل بشعار إعادة التدوير”، وبين صاحب دكان صغير يكتفي باستلام براميل الحليب وبيعها مباشرة للمصطفين ويحقق أرباحاً ميسورة، وآخر آثر أن يبيع القهوة والشاي على ناصية الشارع الرئيسي، مؤكداً أنه “لا يحسد المدير والوزير”، ولاحق فتح حانوت سمانة أو كشك دخان، وسابق استحلى التجارة واصطياد الفرص العقارية والتجارية، وشاب ريفي عرف من أين تؤكل كتف الزراعة وتربية القطعان والاستثمار في المداجن والحظائر؟
ما أتينا عليه ليست “مرثية” تنال من حال الموظف بل هي ترجمة ميدانية يعرف وجعها المسؤول والمواطن معاً، وتعطي أرضية لقراءة حالة توازن مرحلي وإسعافي ترتبط بظرفية الأزمة، مفادها تشجيع العمل والتشغيل الحر الفردي والجماعي المقرون بدعم قدرات شريحة الموظفين وتأمين ظروف تخدم العمال وهم الأكثر التزاماً بسداد الضريبة والفواتير بكافة أشكالها، وليس لديهم تهرب ولا تملص، لأن راتبهم ممسوك من قبل الدولة.