سورية والعالم القادم
أحمد حسن
هذا زمن المتغيّرات العالمية المتسارعة. قمم الرئيس الصيني القادمة في المنطقة، بأطرافها المعروفة، تقول ذلك. إعلان جهات عالمية وعربية – عبر طلبات الانضمام إلى منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس – رغبتها بتموضع جديد يناسب التغييرات الدولية منذ حرب أوكرانيا يقول ذلك أيضاً. حصول سورية على مقعد عضوية السكرتارية العامة لمجلس السلم العالمي، كواحدة من 13 ممثلاً فقط لأكثر من 150 عضواً في الجمعية العامة للمجلس، يقول ذلك وبصوت أعلى أيضاً وأيضاً.
بيد أن هذه المتغيّرات ليست نتاج اليوم الحالي، فما نراه ونعيشه هو حالة كشف لا إنشاء، لأن اللحظة الحقيقية للتغيير، أو نقطة ارتكازه الرئيسية، ظهرت يوم “الثلاثاء السوري” في بداية العشرية الثانية من هذا القرن، حين قامت كل من روسيا والصين باتخاذ أول فيتو مزدوج في مجلس الأمن الدولي لمواجهة قرار حرب غربي وإقليمي، وعربي للأسف، كان يطمح لتكرار، وتعميم، الحالة الليبية في سورية والمنطقة بأسرها، وبالتالي كان ذلك اليوم أول إعلان، مضمرٍ، عن بدء المواجهة التغييرية التي قادت خطواتها لاحقاً نحو أوكرانيا، وستذهب حكماً نحو تايوان بغض النظر عن لهجة التهدئة الأمريكية الأخيرة في قمّة العشرين.
بهذا المعنى، كانت الحرب السورية، وبصرف النظر عن دوافع أخرى لها، المطهر الذي ولجه النظام العالمي حتى وصل إلى هنا، وبهذا المعنى أيضاً ستكون نهاية هذه الحرب مؤشراً على ترسّخه على صورته القادمة، وهذا وإن دل في جانب رئيسي منه على زمن قاسٍ قادم، إلا أنه يفسّر، من جانب آخر، خطوات الانفتاح التي بدأها بعض المشاركين الرئيسيين في الحرب نحو دمشق، وذلك أمر لا يجب أن يدفعنا إلى التراخي بقدر ما يجب أن يدعونا إلى الاستعداد، الداخلي والخارجي، لفصل أدهى وأمرّ ولمرحلة حرجة ستشهد الكثير وصولاً إلى لحظة لفظ “القديم” أنفاسه الأخيرة، وذلك أمرٌ ما زال بعيداً بمقدار ما، حتى لو كنا نسمع اليوم بعض أصوات “الحشرجة” الصادرة من فريق أو آخر.
هنا تبرز أهمية فضيلتي الحكمة والصبر، لكن بشرط أن تكونا محمولتين على مأثرة “حفظ الرؤوس في مرحلة تغيير الدول”، وأسّ ذلك تكاتف داخلي أساسه وعي المواقع والأحجام وتأمين الداخل عبر إجراءات “معيشية” أصبح تكرار تعدادها مملّاً، بهدف الإمساك الكامل بخيوط اللعبة في صراع وجودي يدور في منطقة حسّاسة وحيوية مثل سورية بموقعها الجغرافي والمادي والمعنوي.
ولذلك يجب هنا، تحديداً، تأكيد أن الفاصل في الرسائل الإيجابية الموجّهة من البعض إلى سورية هو الأفعال لا الأقوال، والفاصل في المواقف “الإعلامية” للبعض الآخر هو الصدق، والميدان، مع ضرورة التأكيد للجميع أن موقفهم الإيجابي من دمشق هو ضرورة حيويّة ماسّة لأوزانهم وأدوارهم الإقليمية ولأمنهم القومي المباشر قبل أن يكون كذلك لها، فالأمن العربي يبدأ مثلاً، وكما أثبت التاريخ، من حدود سورية الشمالية لا من حدودهم “السايكس بيكية”، والأمن التركي يبدأ أولاً من علاقات صداقة صادقة مع دمشق التي أعلنت دائماً أنها منفتحة عليها شريطة حفظ السيادة والحقوق.
بهذا المعنى، مرة جديدة، لا أفقَ معقولاً للعدوان التركي على الشمال السوري، لأن محاربة الإرهابيين يجب أن تبدأ من السياسة التركية ذاتها التي فتحت حدودها ومطاراتها ومقرّاتها لاحتضانهم حين كانت وجهتهم دمشق، وقد اتضح، ومن ميدان “تقسيم” أن وجهتهم، أيضاً، أنقرة، وبالتالي يجب أن يعرف حكّامها أن كل هذا “الظهور الدولي” و”الظّهر الدولي” الممنوح لهم في هذه المرحلة لن ينفعهم كثيراً، فالحدود الآمنة تسوّر فقط بالعلاقات الآمنة والسياسات الصادقة لا المراوغة.
وإذا كان ذلك حال الدول، فمن الأولى أن نعيد تذكير بعض “الميليشيات” المراوغة التي وضعت كامل “بيضها” في السلّة الأميركية بقول الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك “المتغطي بالأمريكان عريان”، ومن الواجب الوطني أن نقول لهم إن عملية سحب “الغطاء” لم تعُد بعيدة.