“الحجر على البشر حنون”.. ثقافة لواء اسكندرون
حلب – غالية خوجة
سيظل الشعب العربي السوري وحدة واحدة وهوية واحدة مهما تشاركت الظلاميات والحروب عليه لأن الضوء متجذر في الروح السورية وعروبتها كما يتجذر الجولان ولواء اسكندرون الذي تردد ذاكرته أبيات هذا الشعر الذي لم أعرف من كتبه، ليبدو أننا جميعاً كأننا كتبناه ونردده:” أنا من بلاد العطر بلاد الزيزفون، أنا من بلاد فيها الحجر على البشر حنون، فأنت يا سائلي من أين أنا؟ ومن أين أكون؟ أقول: ســوري من لواء اسـكندرون”.
هذا اللواء السوري السليب الذي ساهمت في انزلاقه تدريجياً فرنسا المحتلة لتركيا المحتلة منذ أواسط ثلاثينيات القرن التاسع عشر،ما زال وسيظل فخوراً بانتمائه لوطنه الأمّ سوريتنا الحبيبة التي لن تنساه للأبد.
ومع كل ذكرى لهذا الاستلاب يقف الشعب العربي السوري داخل سورية وفي اللواء وقفة واحدة تذكّرنا بتلك الوقفة التي تعاشقت أرواح السوريين مثل الضوء المشع بين الزجاج المعشّق، فصلى المسلمون صلاة الجمعة في كنائس اللواء وانطلقوا مع المسيحيين بتظاهرتهم ضد هذا الاحتلال الذي أغلق المساجد عندما علم أن أهل اللواء سيتظاهرون ضده مطالبين بالعودة مع لوائهم إلى وطنهم سورية، وحدث ذلك في كانون الثاني عام 1937، لأن جميع العالم موقن بأن فرنسا أعطت ما لا ولن تملكه لمن لا ولن يملكه، تماماً، مثل الجولان وفلسطين.
ولأن لواء اسكندرون سيظل محافظة سورية عائدة لا ريب فيها، فإن الشعب العربي السوري يتوارث أرضه وهويته بألجيناته ودمه وروحه عبْر الأجيال، فلا يمكن إلاّ أن يكون اللواء السليب عربياً سورياً بذاكرته وأهاليه وإطلالته على البحر الأبيض المتوسط من جهة الغرب، وسهول كيليكيا وجبال طوروس من جهة الشمال، ويتسم موقعه باستراتيجية تأريخية وجغرافية وتجارية كونه أحد محطات طريق الحرير العالمية، كما تحتضنه أربعة جبال هي الأمانوس، الأقرع، موسى، النفاخ، إضافة لما يتمتع به من مصادر مائية منها عبور نهر العاصي، وشلالات الحربيات.
وستظل سجلات منكوبي ومهجَّري اللواء وثائق تشهد على انتمائهم وقوميتهم وهويتهم وتمسكهم بوطنهم السوري، ورفضهم بكل تأكيد للهوية التركية، وهو ما يصر عليه جميع أهالي اللواء ومنهم الكثير من المناضلين والمفكرينوالعلماء والسياسيين والفنانين والإعلاميين والأدباء، وأبرزهم الشاعر سليمان العيسى شاعر الطفولة والعروبة، المولود في “النعيرية” بأنطاكية، الذي شارك منذ كان في الصف الخامس بمظاهرات من أجل هوية اللواء السورية العربية القومية، ودرس وعاش بين حماة واللاذقية وحلب ودمشق، حالماً بالرجوع إلى شجرة التوت العتيقة في بيت جده في اللواء.
وكذلك فعل الروائي شيخ البحر حنا مينه الذي عاش طفولته في إحدى قرى اللواء “المستنقع”، وعاش بين اللاذقية وبيروت ودمشق مكافحاً بكتاباته ضد هذا الاحتلال، متطلعاً إلى العودة وسيرتها العريقة.
بينما نلاحظ الرؤية المنهجية ذاتها بين النضال والكفاح والتشبث بالهوية العربية السورية في كتابات صدقي إسماعيل المولود في مدينة إنطاكية السورية والتي درس فيها لغاية المرحلة الثانوية ثم تنقّل بين حماة وحلب ودمشق، وهو ما تعكسه رواياته ومسرحياتهوقصصه ودراساته وقلمه الصحافي لا سيما وأنه مؤسس مجلة “الكلب” الساخرة، موقناً مثل جميع المبدعين في كافة المجالات أن الكلمة أقوى الجذور في كافة المجالات العقلية والبحثية والعلمية والأدبية والانتمائية، فكيف إذا كانت الكلمة عربية.
أيضاً، كافح وتظاهر المناضل المفكر الفيلسوف زكي نجيب إبراهيم الأرسوزي على كافة الجهات والجبهات، وكان مديراً لناحية “أرسوز” في أنطاكية، وأصبح مدرّساً للفلسفة في مدارس سورية، وأسس جريدة “العروبة” الحمصية، وهو الذي قاد ثورة ضد فرنسا عندما تمّ اقتطاع اللواء، وقام بحملة ضد تتريك اللواء، وما زال زعيماً وطنياً ورمزاً من رموز الوطنية العربية القومية.
ولم يتوقف نضال اللوائيين ضد الاحتلال، ولقد تظاهروا عام 2013 رفضاً للحرب الإرهابية على سوريتنا الحبيبة، وتمت المواجهات بين اللوائيين والشرطة التركية في عدة مناطق، ومنها حي العرمطلية بأنطاكية.
ومن الشخصيات اللوائية السورية نذكر إغناطيوس الأنطاكي، مار يوحنا ذهبي الفم، الفنان العالمي د.حيدر يازجي، د.وهيب الغانم، الفنانة آمل سعد الدين وأبرز أدوارها في “ضيعة ضايعة”.
أمّا ماذا عن الجيل الشاب الجديد؟
كما يخبرنا الواقع، إنه جيل يتمتع بوعي انتمائي، يجيب عن العديد من الأسئلة، منها: من نحن؟ وما هويتنا؟ من خلال التحدث بالعربية في المنازل على صعيد العائلة، ومن خلال الفعاليات الثقافية الفنية الاجتماعية العربية مثل الغناء وإلقاء الأشعار والندوات المهتمة بالتوثيق الشفاهي مع اللوائيين الكبار الذين يتحدثون للأجيال بالعربية عن ذاكرتهم وذاكرة المكان والأحداث التأريخية التي عايشوها ناقلين آلامهم وآمالهم وهويتهم إلى الجيل الجديد، إضافة إلى اهتمام الأكاديميين والمثقفين في لواء اسكندرون بنشر الدراسات والأبحاث والوثائق المرجعية عن تأريخ اللواء وحياته ولغته العربية وهويته السورية.
والملاحظ أن المواطنين السوريين ومنهم اللوائيين سيظلون يداً واحدة وقلباً واحداً وروحاً واحدة تناضل من أجل إعادة اللواء إلى جغرافيته الأصلية، وتناضل اجتماعياً وثقافياً وحياتياً من خلال العديد من الجمعيات والأنشطة والفعاليات ومنها التظاهرة اليومية الحياتية المترسبة في قلوب السوريين تجاه لواء اسكندرون كمحافظة عربية سورية، ومنها التظاهرة السنوية التي تصر على هذا الحق.