عبد العزيز المقالح.. رحيل شاعر مجدد وناقد رصين

جمان بركات

يتذكر كثير من أساتذة الجامعات السورية رئيس جامعة صنعاء الدكتور عبد العزيز المقالح بكثير من التقدير والاحترام، لمودته لهم واحترامه لعلمهم أيام استقبل عدداً لا بأس به منهم وعلى مدى سنوات، أساتذة معارين أو زائرين من جامعاتهم، إلى المؤسسة الأكاديمية الفتية، جامعة صنعاء.

عُرِف المقالح (1938 – 2022) الشاعر والناقد والدارس للغة العربية وآدابها، والحاصل على شهادتي الماجستير (1973)، والدكتوراه (1977) من جامعة عين شمس في القاهرة، باعتزازه العروبي وشغفه بقضايا الأمة العربية ورسالتها الإنسانية، وضرورة بعثها من جديد أمةً حاملة مشاعل النور والضياء والحضارة، ويُذكر أن أول قصيدة كتبها كانت تتحدث عن فلسطين. تتلمذ المقالح على عدد من الأساتذة والأدباء في اليمن قبل أن يتخرج في دار المعلمين بصنعاء عام 1960، ثم تابع دراسته الجامعة ليحصل على إجازة في اللغة العربية عام 1970. بدأ بكتابة الشعر وهو يافع، وأصدر ديوانه الأول “لا بد من صنعاء” (1971)، تلاه “مأرب يتكلم” (1972)، و”رسالة إلى سيف بن ذي يزن” (1973)، و”هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي” (1974)، ثم “عودة وضاح اليمن” (1976). عمل المقالح بعدها أستاذاً للأدب الحديث في جامعة صنعاء التي بقي رئيساً لها منذ عام 1982 إلى عام 2001 كما كان رئيساً للمجمع العلمي في اليمن وعضواً في مجمعي القاهرة ودمشق للغة العربية.

بدأ المقالح حياته الشعرية متمسكاً بالشعرية التقليدية، فكتب على أوزان الخليل وإيقاعات الشعر القديم، لكنه لم يلبث أن غادرها منفتحاً على الآفاق الشعرية الجديدة التي صاغتها الشعرية العربية الحديثة على يد أبرز أعلامها، مثل نازك الملائكة والسياب وأدونيس والبياتي وصلاح عبد الصبور وغيرهم. واستطاع المقالح أن يبرز في أحضان الحداثة الشعرية المجدّدة التي ازدهرت في منتصف القرن الماضي، وأن يضيف إليها نكهته الخاصة، وأن يواكب فرسانها المجيدين، فقد ابتدع لشعره أسلوباً خاصاً متحرراً من قيود مرهقة في القصيدة التقليدية ومضفياً طابعاً من التجديد في إظهار مستجدات العصر الحديث في اليمن والوطن العربي، لقد تمكّن المقالح من إضفاء صفة التجديد الشعري رؤية وشكلاً على قصائده، ما جعله واحداً من حملة راية الحداثة الشعرية العربية المتميزين، لذلك لا يمكن الحديث عن الشعر اليمني بشكل خاص والعربي بصفة عامة إلا مقروناً بذكر الشاعر عبد العزيز المقالح.

لكن إيمانه بالحداثة لم يقده في يوم إلى التسليم بحداثة تلغي خصوصية الذات والهوية، وتفرض نموذجاً كونياً على الجميع اعتماده، فقد أعلن رفضه لهيمنة العولمة التي تملي على الآخرين طريقة الحياة وأركان الثقافة وأنماط التفكير. ورأى أن الهوية والثقافة، والشعر في مقدمتها، ضحيتان أساسيتان لهذه العولمة المستبدة التي تبحث عبثاً عن قصيدة معولمة “تتماثل أشكالها ورؤاها من الصين إلى أميركا إلى أوروبا إلى الوطن العربي، وقصائد هذه الموجة عديمة الانتماء، فاقدة الهوية، ولا معايير متينة تحكمها، وكثيراً ما يراها فاقدو الموهبة مدخلاً سهلاً لحضورهم المفاجئ على خارطة الشعر المزعوم”.

لذلك تتميّز قصيدة المقالح بالخصوصية القومية العربية والوطنية اليمنية في نوع من إثبات هوية ذات أبعاد تاريخية وحضارية وثقافية لا تقبل الجدال. حبه لعروبته جعلها بؤرة قصائده شعرياً، أما حياتياً ووظيفياً فقد دفعه انتماؤه القومي إلى استقطاب المثقفين العرب واستقبالهم في اليمن، ولاسيما خلال رئاسته لجامعة صنعاء، فغدت عاصمة اليمن وجهة يلتقي فيها المبدعون والمثقفون والكتّاب من مختلف أرجاء الوطن العربي، مثل أدونيس ومحمود درويش.. وغيرهم.

وإذا كانت العروبة موضع اعتزاز المقالح وفخره، فإن اليمن يعيش في القلب ويحتله، وفي الشعر، ويتصدّره، كان الحاضر الدائم في قصائده التي كتبها منذ ما يزيد عن خمسين عاماً حين أصدر ديوانه الأول “لابد من صنعاء”، يقول عن تماهيه ببلده اليمن:

“في ضميري يَمَنْ

تحتَ جِلْدي تعيشُ اليمنْ

خلفَ جَفْني تنامُ

وتصحو اليَمَنْ،

صرتُ لا أعرفُ الفرقَ ما بينَنا

أيُّنا يا بلادي يكونُ اليمنْ؟”.

وفي قصيدته “القصيدة أمي” يقول واصفاً اليمن في حربه المميتة:

اعذروني إذا ما بكيت

وأبكيتُكم

ليس دمعي الذي يتحدّر

حتى يلامس وجهَ التراب

ولكنه دمع هذي البلاد،

بلادي التي دمّرتها الحروب

وأدمى قلوبَ بنيها

الخلافُ

على شهوةِ الحكم

ويلٌ لهم حين ينكشف المسرحُ العبثيُّ

ويكتشف الناس زَيفَ الروايةْ.

وكان لدمشق نصيب في شعره، إذ خصّها بقصيدة يقول فيها:

دمشق التي قاتلت

ودمشق التي احترقت

ثم عادت من النار، لم تحترق

كيف تحترق الآن في السلم؟

تفقد لون ضفائرها؟.

أصدر المقالح نحو عشرين ديواناً من الشعر، ونحو ثلاثين كتاباً في النقد الأدبي، ومئات الدراسات والأبحاث والمقالات، من بين

دواوينه: “أبجدية الروح” 1998، “كتاب صنعاء” 1999، “كتاب بلقيس وقصائد لمياه الأحزان” 2004، “كتاب المدن” 2005، “بالقرب

من حدائق طاغور” 2018، “يوتوبيا وقصائد أخرى” 2019. أما دراساته النقدية فيذكر من بينها:

1. الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن.
2. قراءة في أدب اليمن المعاصر.
3. أصوات من الزمن الجديد.
4. قراءات في الأدب والفن.
5. أزمة القصيدة الجديدة.
6. الوجه الضائع، دراسات عن الأدب والطفل العربي.
7. شعراء من اليمن.

كتبت عنه دراسات مرموقة من قبل نقاد وباحثين معروفين نذكر منها:

1. إضاءات نقدية: د. عز الدين إسماعيل، ود. أحمد عبد المعطي حجازي وآخرون.
2. النص المفتوح دراسات في شعر د. عبد العزيز المقالح: مجموعة من النقاد.
3. بنية الخطاب الشعري: د. عبد الملك مرتاض.
4. شعرية القصيدة: د. عبد الملك مرتاض.
5. المضامين السيكولوجية في شعر د. عبد العزيز المقالح: جاسم كريم حبيب.
6. ثلاثة شعراء معاصرين من اليمن (باللغة الإنجليزية): بهجت رياض صليب.

وحصل على جوائز عديدة منها:

• جائزة اللوتس عام 1986.
• جائزة الثقافة العربية، باريس 2002.
• جائزة الفارس من الدرجة الأولى في الآداب والفنون من فرنسا.
• جائزة الثقافة العربية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أليكسو، 2004م.
• جائزة الشعر من مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية 2010.

نعته اتحادات الكتّاب العرب في الأقطار العربية مشيدة بمنزلته الشعرية والفكرية والقومية، وقال عنه اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين: “اليمن والأمة العربية والعالم خسروا بوفاة شاعر اليمن الكبير المقالح واحداً من أهم الأسماء الشعرية التي مثلت إضافة ورصيداً لقصيدة التفعيلة والنقد العربي الحديث، علاوة على التعليم الأكاديمي الذي كان المقالح من أبرز أعلامه”. وأضاف البيان: “ما تمتّعت به قصيدته الحديثة ومقاله الرصين من سمات عزّزت من مكانته وكرست حضوره الإبداعي والإنساني اسماً كبيراً وعلماً عظيماً من أعلام القصيدة العربية”.