“ديستوبيا” الوجع السوري ومفارقاته
سلوى عباس
في عرض “ديستوبيا” الذي اقتبسه المخرج مأمون الخطيب برؤيته وإخراجه عن نص “المزبلة الفاضلة” للكاتب السعودي عباس الحايك، رؤية تنطبق على الواقع السوري والوجع والفوضى التي تسببت بها الحرب، والذي قُدم على مسرح الحمراء بدمشق ضمن فعاليات أيام الثقافة السورية. ولم تقتصر البطولة في هذا العرض على الممثلين الخمسة (رنا جمول وإبراهيم عيسى وغسان الدبس ورامي خلو وإبراهيم عدبة) الذين جسدوا العرض، بل كنا جميعاً ممثلين وجمهوراً أبطال العمل الذي يحكي تفاصيل حياة كل واحد منا، ويتحدث بلساننا، وكأن وجودنا في الصالة لنتفرج على حياتنا وهزائمنا.. طموحاتنا وأحلامنا بأداء ممثلين أسعفهم القدر بموهبة القدرة على تجسيد حالات كثيرة في الحياة من خلال مهنة التمثيل، وهذا ما يختلفون به عنا بقدرتهم على إخراج الألم والتعب الذي يعيشونه والتعبير عنه، إذ عمل المخرج على مسرحة الواقع، فحمل العمل الكثير من الصدق والشفافية ليضعنا جميعاً في مواجهة أنفسنا، نبحث عن أجوبة لأسئلة أرهقت أرواحنا ورمتنا خلف عتبة الحياة، حيث ينبش المخرج ذاكرتنا، لنقف أمام لحظة نعيشها تتحدث عنا كأشخاص منفردين ومن ثم عندما تجتمع الطباع، تجتمع معها التناقضات والمفارقات وتنتج جميعها حالات مشابهة لها.
تقدم المسرحية نماذج من المجتمع منهم الممثل والصحافي والمجنون والغني والفقير وغيرهم، وكلهم يعيشون في مزبلة هرباً من الواقع المعاش الذي يرفضون مواجهته، حيث تدور أحداث المسرحية في إطار عبثي، وفي غياب الانسجام بين أبطاله، ما سيؤدي إلى تعدد الأفكار والاجتهادات التي لا يمكنها أن تسهم في خلق التوافق بينهم، كما يطرح العمل الصراع بين الواقع والخيال في تناول جدي لقشور المظاهر وجوهر الحقيقة لمجموعة معزولة عن المجتمع ترى في المزبلة مكاناً أشبه بمدينة أفلاطون الفاضلة حيث يبحث كل واحد عن نقطة الخلل التي أودت به إلى هذا الحال.
يشكل الحب بمختلف أشكاله ثيمة العمل الأساس عبر دلالات تمثل دعوة للحياة، قدمها أبطال العمل الذين أدركوا مسؤوليتهم كمسرحيين تجاه ما يحصل في بلدهم الذي يحبون. وما يؤكد حرصهم على رسالتهم العبارة التي تضمنها بروشور العمل والمقتبسة أيضاً من قول للفيلسوف نيتشه “نحن نحب الحياة، ليس لأننا تعودنا على العيش ولكن لأننا تعودنا على الحب” حيث يعيش أبطال العمل تداعيات أرواحهم النازفة جراء أحداث مريرة وموجعة عاشوها إثر حرب ظالمة امتدت لسنوات طويلة، هذه المرارة التي يتحدثون عنها كأشخاص جمعتهم “مزبلة” رأوا فيها ملاذاً من واقع القسوة وفساد الأخلاق وقتل الطموح، والخوف من المستقبل، وانعدام أدنى مقومات الحياة الطبيعية لتصبح هذه “المزبلة” مدينة فاضلة لهم، وملجأ من قذارة العالم المحيط، حيث يتحدث العمل عن السوريين البسطاء وحياتهم وكيف تحوّل وضعهم قبل وبعد الحرب وتأثيرها عليهم، وهذا ما أعطى العمل الكثير من الصدق والشفافية، ووضعنا جميعاً في مواجهة أنفسنا، نبحث عن أجوبة لأسئلة أرهقت أرواحنا ورمتنا خلف عتبة الحياة.
يُعنى مخرج العمل بتتبع أنماط المفارقة في هذا النص المسرحي المتميز، وإبراز التناقضات والتباين بين عالم شخصيات المسرحية الذين يمثلون شريحة من المهمشين وبين العالم المادي الذي صدمهم في أحلامهم وآمالهم فاتخذوا المزبلة عالماً بديلاً لهم وارتاحو للحياة فيها، واعتبروها عالماً مثالياً فاضلاً يخلو من الشّر والقهر والظلم، فحين تضيع أحلامنا على صفيح ساخن من العقبات وصفعات الفشل المتتالية، أو حين تسرقها من قلوبنا وعقولنا ظروف أو وجوه أخرى لا حقّ لها فينا وفيها، ننهزم إلى عالم آخر يكون أكثر عطفاً على أحلامنا الصغيرة، وأقل قساوة، حتى ولو كان هذا العالم البعيد المهمش هو “مزبلة” حولناها بأيدينا إلى “فاضلة”.
شخصيات العمل الذين تقلبت بهم الحياة وتقطعت بهم أحلامهم، ورماهم مصيرهم داخل مزبلة بأحد الأحياء الغنية، وما زال كل واحد منهم متمسك بحلمه الذي لم يستطع تحقيقه وتعثر وسقط وهو بالطريق إليه، حتى استطاعوا أن يخلقوا عالماً خاصاً بهم يتناسب تماماً مع حالاتهم وظروفهم وأمانيهم، فأسموا هذه المزبلة التي اتخذوها منزلاً لهم بـ”المزبلة الفاضلة”. لكن الأمان الذي عاشته في “مزبلتهم” هذه
لم يدم طويلاً، فقد كان أحد عمال النظافة، يحاول طردهم منها لأنها مشروع مبنى تجاري كبير، ويبدأ الصراع بينهم على أحقية البقاء في مزبلتهم الفاضلة ليفوز بالنهاية عامل النظافة ويطردهم منها ولو مؤقتاً.
تميّز فريق عمل مسرحية “ديستوبيا” بعفوية كبيرة بأداء شخصياتهم، ورؤية إخراجية بسيطة جداً وواضحة بطرح حياتهم ومشاكلهم، فلم يستعن الخطيب بترميزات وتأويلات كبيرة، وقام بطرح الصراع والواقع بشكل مباشر، ولكن مع ذلك لم ينقص هذا الأمر من جودة العمل، الذي جذب الجمهور حتى نهايته، ببساطة طرحه وبطرافة وخفة ظل شخصياته التي لم تكن مركبة كثيراً، وكان ماضيها واضحاً.