بين رهافة الرّوح والرّض النّفسي.. مبدعون حددوا النّهاية!!
نجوى صليبه
“يا ضيعانو شبّ بعمر الورد.. ابصر شو صاير معو” عبارة استنكارية وتعاطفية واستهجانية سمعناها كثيراً في السّنوات الأخيرة تفاعلاً مع حوادث انتحار شباب في مقتبل العمر، بعضهم كان على مقاعد الدّراسة الثُانوية، وغالباً ما علّق أصدقاؤه على الخبر بالقول: “كان لطيف ومهذب وشاطر ورفيق الكلّ”.
تذكّرنا هذه الحوادث ـ ولا نقارن أبداً ـ بحالات انتحار أدباء ومثقفين وفنّانين على مرّ العصور والأزمان، وعلى اختلاف مستوياتهم الفكرية والعقلية والإنتاجية، كان ولا يزال خبر انتحارهم صادماً ومؤلماً لمن يقدّر أهميتهم ويدرك الخسارة الكبيرة بفقدهم، ولا سيّما أولئك الذين قرروا حسم حياتهم وهم في عشرينياتها أو ثلاثينياتها، كالكاتبة والمخرجة المسرحية سارة كين (1979 ـ 1999)، والتي كتبت خلال خمس سنوات ستّة نصوص مسرحية، ركّزت فيها على الحبّ والألم والتّعذيب الجسدي والنّفسي والموت، أمّا عرضها الأخير “ذهان 4:48” فقد كتبته وهي في قمّة معاناتها مرض الاضطراب ثنائي القطب، وبحسب ما ذكر عن حادثة انتحارها فقد اختارت السّاعة 4:48 صباحاً بالتّحديد لأنّها في هذا الوقت تصحو بشكلٍ دائم خائفةً، كما ذكر أنّ وكيلها الأدبي صرّح بأنّه كان يجب عليه أن ينتبه إلى أنّ هذا العرض كان رسالة انتحار، لم يدركها إلّا متأخراً، وفعلاً هذا ماكان فقد فشلت في محاولة الانتحار الأولى، لكنّها لم تفشل في الثّاني التي تلتها بعد فترة قصيرة وأنهت معاناتها وهي في الثّامنة والعشرين من عمرها.
وفي ذكرى ميلاده التّاسعة والثّلاثين، عُثر على جثّة الرّوائي الياباني وسامو دازاي، وجثّة زوجته أيضاً، في أحد الأنهار، بعد ست محاولات انتحار متتالية، كان وكما قيل يتمّ إنقاذه منها بأعجوبة.. وكان دازاي معروفاً بإدمانه على المخدّرات، لدرجة أنّ جائزة “آكوتاجاوا” الأدبية والمرموقة في اليابان حجبت عنه على خلفية حياته الشّخصية على الرّغم من قول القائمين عليها بأحقيته فيها.
تتعدد أسباب الانتحار وظروفها وربّما عدد المحاولات الفاشلة، لكن البعض يرحل من دون إشارات أو تلميحات، والبعض الآخر يرحل بعد تلميح مرّة واحدة أو تلميحات متكررة وبطرق مختلفة، فالشّاعر والرّوائي الإيطالي “تشيزاري بافيزي 1908 – 1950” تغزّل مراراً بالموت بعد أزمات شخصية عدّة عاشها على الصّعيد السّياسي والاجتماعي، وتعدّ قصّة حبّه الفاشلة أبرزها، كما ذكره في كتاب مذكّراته “مهنة العيش”، إذ يقول في وصف حالته: “رجل لا يملك أدنى فكرة عن كيفية العيش، لم يتطوّر أخلاقيّاً.. أبله لا طائل منه.. داعماً نفسه بأفكار عن الانتحار، لكنّه لا يُقدِمُ عليه”، أمّا في الحقيقة فقد أقدم عليها بجرعةٍ زائدة من دواء عصبيّ.
وعلى المقلب الآخر، نقرأ أخباراً متباينة حول وفاة بعض المبدعين، فالرّواية المتعارف عليها والتي تقول بانتحار الفنّان الهولندي “فنسنت فان غوخ 1853 ـ 1890″، شكك بصحّتها الصّحفيان “ستفين نايفه” و”جريجوري سميث”، الحائزان على جائزة “بوليتزر” الصّحفية في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 2011 نشرا سيرةً ذاتيةً لـ”غوخ” يؤيّدان فيها القتل خطأ أو عمداً، مدللين بعدم العثور على السّلاح ولا أدوات الرّسم وبأنّ رسوماته في آخر سنوات حياته لم تكن توحي بكآبة أو مرضٍ نفسي.
ويبقى الأمر الغريب في هكذا حوادث، هو ما يتبعها من تعليقات وآراء، فالبعض يستهجنها، والبعض يتعاطف معها وربّما يمجّدها، ولا سيّما الأصدقاء، نذكر على سبيل المثال، ما رُوي عن الكاتبة الأمريكية “آن سيكستون 1928ـ 1974” وبعد سماعها بحادثة انتحار الأديب “أرنست همنغواي 1899ـ 1961″، قيل إنّها أشادت بجرأته وقدرته على إنهاء حياته وهو في قمّة عطائه قبل أن يستسلم للاكتئاب، لكنّها عندما سمعت بانتحار صديقتها الكاتبة “سيلفيا بلاث 1932 ـ 1963″، صرخت قائلةً: “كنت أنا أولى بهذا الموت”، وبعد ذلك بحوالي الأحد عشر عاماً، قرّرت ارتدت معطف والدتها المتوفية وأغلقت باب المرآب وشغّلت محرك سيّارتها وظلّت تستنشق غاز أوّل أوكسيد الكربون، ليُعلن عن وفاتها انتحاراً.
وعلى الجانب الآخر، نقرأ للأديب الفرنسي “ألبير كامو1913- 1960” ما كتبه حول فكرة الانتحار: الانتحار ليس حلّاً مناسباً، لأنّه ينفي المشكلة بدلاً من حلّها، والحلّ المناسب يكمن في مقدرة الإنسان على خلق فنّ يعكس حالته الإنسانية، ونقرأ أيضاً: إنّ معظم المفكّرين المؤيدين لفكرة الانتحار ويصفون فعلها بالشّجاع لم ينتحروا.
ويبقى السّؤال: لماذا أقدم كلّ هؤلاء المبدعين على الانتحار؟ هل هو المرض النّفسي أم الجبروت والأنا اللامتناهية التّعالي؟ هل السّبب هو رغبتهم بالخلاص من أزماتٍ يعانيها أشخاص آخرون ولا يفعلون ذلك لا في قوّتهم ولا في ضعفهم؟ أم هل أرواحهم الشّفافة وإحساسهم المرهف هو السّبب؟ أيّا تكن الأسباب فقد رحلوا ورحلت معهم أسبابهم التي من جانبي أنفي ـ بين الجدّ والهزل والدّعابةـ تماماً أن تكون الرّوح الشّفافة هي المتهمة ها هنا، لأنّ بعض من نقابلهم من أدباء ومثقفين فيهم من القسوة والحقد والسّوء ما لا يدلل على ذلك إطلاقاً، ولا سيّما أولئك الذين “يعشقون ويتمعشقون” كلّ شهر جميلة من هان وحسناء من هناك، مبررين ذلك بحاجتهم للإلهام وبأنّ شيطان الأدب عموماً بحاج للتّغيير والتّجديد؟