لا غنى للغرب عن آسيا
عناية ناصر
مر أقل من عام على تولي المستشار الألماني أولاف شولتز منصبه، قام خلال ذلك بزيارة الصين في تشرين الثاني الفائت، كما توجه إلى إندونيسيا لحضور قمة مجموعة العشرين، وزار أيضاً كلاً من فيتنام وسنغافورة، وكل ذلك خلال فترة قصيرة جداً ليشعر العالم بالتغيرات في الدبلوماسية الألمانية، حيث قال شولتز في تصريح له في برلين إن “عالماً متعدد الأقطاب يرتب نفسه بشكل متزايد الآن، وبشكل جوهري من جديد”. مضيفاً: “لقد تمتعت بلدان أمريكا الشمالية وأوروبا على مدى سنوات بمزيج من النمو المستقر والتضخم المنخفض ومعدلات التوظيف المرتفعة، لكن هذا كان استثناءً اقتصادياً لا يمكن توقع استمراره أكثر من ذلك”. ودعا ألمانيا والدول الأوروبية الأخرى إلى تبني المزيد من التجارة مع الاقتصادات الناشئة.
في هذا الخصوص، قام شولتز بزيارات متتالية إلى آسيا، خدمة للمصالح الوطنية الألمانية بالطبع، وكل ما في الأمر هو أن التغيير الحالي في دبلوماسية ألمانيا يظهر الاتجاه العام للعالم، وهو أن آسيا لا غنى عنها إذا كان الغرب يريد الاستمرار في التطور والازدهار.
عانى الغرب لعقود من تراجع التصنيع على نطاق واسع، وشكلت آسيا والغرب علاقة بين الإنتاج والاستهلاك، لكن ألمانيا لم تشارك في إزالة التصنيع، إذ لا تزال الصناعة التحويلية الألمانية في حالة نمو وتصل نسبتها في الاقتصاد الوطني إلى 24 بالمائة. لذلك، تكمن أهمية التغييرات الدبلوماسية في ألمانيا في أن آسيا ليست المصنع العالمي فحسب، بل أصبحت أيضاً السوق الاستهلاكية الأكثر أهمية في العالم، إضافة إلى أن دور آسيا بالنسبة للغرب والعالم يتغير بشكل أساسي.
كانت نسبة الاقتصاد الآسيوي في العالم تنمو بسرعة، ففي عام 2020 استحوذ الاقتصاد الآسيوي على أكثر من 50 في المائة من العالم لأول مرة، كما سلطت جائحة كوفيد -19 الضوء على اعتماد الغرب الكبير على آسيا، إذ يشير صعود آسيا مع الدول النامية باعتبارها الجسم الرئيسي لها، إلى أن الغرب يفقد مكانته المهيمنة في السياسة والاقتصاد العالميين، وما حضور شولتز لقمة العشرين في إندونيسيا إلا انعكاس لهذا الاتجاه.
تم إنشاء آلية اجتماع قادة مجموعة العشرين على خلفية الأزمة المالية لعام 2008 في الولايات المتحدة والتي تسببت بأزمة الديون السيادية الأوروبية، والأزمة الاقتصادية العالمية، كما أنها كانت المرة الأولى في التاريخ التي أصبح فيها عدد كبير من الدول الناشئة أعضاء مؤسسين، وعملوا مع الدول المتقدمة لحل المشكلات الاقتصادية العالمية. قبل ذلك، حددت الاجتماعات السنوية لمجموعة السبع الشؤون الاقتصادية العالمية، لكن أزمة عام 2008 جعلت الغرب يدرك أنه غير قادر على حلها بمفرده، وعليه أن يتعاون مع الدول الناشئة، التي يشكل أكثر من ربعها دولاً آسيوية، وبعد أكثر من 10 سنوات ما زالت آسيا تخطو خطوات كبيرة، في حين أن الغرب لا يزال يعاني من مشاكل عدة ويفقد حيويته.
تمثل الصين وفيتنام وسنغافورة وإندونيسيا وألمانيا حضارات مختلفة، كما أن لديهم أيضاً اختلافات واضحة في النظم والقيم السياسية. ومع ذلك، يمكنهم التواصل والتعامل بطرق متساوية ومحترمة، والبحث عن أرضية مشتركة مع الاحتفاظ بالخلافات.
وكشخصية سياسية مهمة في الغرب، يعرف شولتز بالتأكيد مشاكل أوروبا والولايات المتحدة، وهو يعلم أيضاً أنه لا يوجد حل، وإلا لما قال إن “الاستثناء الاقتصادي لا يمكن توقع استمراره أكثر من ذلك”. لذلك يحاول العمل بشكل وثيق مع آسيا النامية بسرعة لإيجاد مخرج من هذا المأزق، ففي ظل هذه الظروف، لم يعد في وضع يملي على الآسيويين ما يجب عليهم فعله. وبناءً على ذلك يجب ألا يقبل شولتز صعود آسيا فحسب، بل يجب أن يتعامل أيضاً مع آسيا بطريقة متساوية ومحترمة.
قد يعتقد البعض أن رحلة شولتز إلى آسيا هي بسبب الصراع بين روسيا وأوكرانيا، وهم يعتقدون بما أنه لم يعد بمقدور ألمانيا الاعتماد على مصادر الطاقة المستقرة والرخيصة لروسيا، لذلك يصعب على صناعتها التصنيعية الحفاظ على قدرتها التنافسية، ويجب أن تتحول إلى آسيا، لكن من الناحية الموضوعية، فإن الصراع بين روسيا وأوكرانيا لم يكن سوى الشرارة، والقشة الأخيرة بالنسبة للغرب.