ثلاثة أجيال لتصحيح مسار التعليم.. سياسة الاستيعاب الكمي تفقد الاقتصاد وسوق العمل التنمية المستدامة
البعث – ريم ربيع
في وقتٍ يتنامى فيه الاهتمام بالجودة، ولاسيما في القطاع التعليمي، كأهم معايير الاقتصاد المعرفي في دول العالم، لا يزال التعامل مع التعليم، سواء المدرسي أو الجامعي أو حتى المهني، في سورية على أساس الكمّ لا النوع، وذلك نتيجة لسياسات الاستيعاب التي لم تعد تستوعبها المنشآت التعليمية، أو حتى بالتشريعات القديمة التي تكاد تفضي – كواحدة من جملة أسباب – إلى خروج سورية من معظم مؤشرات التعليم والمعرفة العالمية.
لكن ليست المؤشرات فقط هي ما يدفع نحو ضرورة الارتقاء بمعايير الجودة في التعليم، بل نجد اليوم أن النهوض الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة لن يبصرا النور بلا أسس معرفية وعلمية متينة، فقبل أيام قليلة عُقد في دمشق المؤتمر الوطني للجودة الذي تضمن لهذا العام ثلاثة قطاعات، هي الصناعة والمصارف والتعليم، وفيما شهد المؤتمر محاضرات لخبراء وصناعيين ومصرفيين، إلا أن هذه المحاضرات خلصت بمعظمها إلى ضرورة تطوير قاعدة التعليم كأساس لكلّ القطاعات، فأية منشأة اليوم تحتاج كوادر كفوءة ومؤهلة سواء علمياً أو مهنياً.
دون جودة لا يوجد ..
رئيس هيئة البحث العلمي، الدكتور مجد الجمالي، رأى أنه بدون جودة لا يوجد تعليم حقيقي، بل يصبح مجرد كمّ بدون نوعية، مبيناً أننا اليوم تأخرنا كثيراً في تطبيق معايير الجودة بسبب ظروف كثيرة، لكن لا يزال بالإمكان اتخاذ إجراءات سريعة من بينها العمل ضمن هيئة الجودة والاعتمادية لقياس الإجراءات والتعليم بجامعاتنا واعتمادها كالمعايير العالمية، التي يعتبر توافق جامعاتنا معها أمراً مهماً جداً، فضلاً عن الأثر الإيجابي الذي يتركه اعتماد المعايير وتخريج كفاءات مميزة، على الاقتصاد الوطني.
غياب سوري
من جهته، بيّن رئيس الجامعة الافتراضية السورية الدكتور خليل العجمي أن إصلاح التعليم لا يتمّ في يوم وليلة، فكل دول العالم التي طورت نظامها التعليمي أثبتت قاعدة أن تراجع أي نظام تعليمي يحتاج ثلاثة أجيال ليصحح مساره، والقاعدة الثانية هي أن تطوير أي نظام تعليمي بتعقيداته العلمية والاقتصادية والاجتماعية يحتاج مشروعاً وطنياً شاملاً برؤية واضحة وتخطيط جيد وحوكمة رشيدة وتنفيذ دقيق، إذ يمكن للمبادرات المحدودة أن تصلح كقصص نجاح ونماذج، لكن لا يمكن أن تغني عن هذا المشروع المتكامل.
وأوضح العجمي أن جميع الأبحاث المعنية بالتنمية المستدامة باتت تعتبر أن بناء اقتصاد قائم على المعرفة شرط لازم لأية تنمية مستدامة، وأول ركائزه التعليم، ومع ذلك فإن سورية بالسنوات الأخيرة لا تَظهر في معظم مؤشرات القياس لجودة التعليم (مؤشر المعرفة، التعليم، نمو البيئة الاقتصادية والاجتماعية، مؤشرات البنك الدولي، والمؤشر الدولي للاقتصاد المعرفي، ومؤشر الابتكار العالمي).
مؤشرات مؤسفة
وتشير البيانات إلى غياب سورية عن مؤشر المعرفة العالمي بعد عام 2020، حيث كان ترتيبها حينها 130 من 138 دولة في العالم، أما في مؤشر التعليم ما قبل الجامعي فكان مؤشر سورية 25% من أصل متوسط عام 60%، وفي مؤشر الابتكار 13% مقابل متوسط عام 23%، أما في المؤشرات الكمية فكان ترتيبنا “جيدا”، حيث حلّت سورية بالمرتبة 19 بمؤشر متوسط عدد الطلاب لكل أستاذ في التعليم الثانوي المهني، وفي المرتبة 15 بمؤشر الإنفاق الحكومي للتعليم ما قبل الجامعي، إذ نُعتبر من أكثر الدول إنفاقاً على التعليم المدرسي.
أما في مؤشر خريجي مرحلة الدكتوراه فاحتلت سورية المرتبة 13، والمرتبة 125 من 138 بمؤشر متوسط عدد الطلاب لكل أستاذ بالتعليم الجامعي، فالخريجون كثر، لكن مؤشرات مردودهم على الاقتصاد الوطني منخفضة، وفق العجمي الذي أشار إلى تصنيفنا بالمرتبة 132 في مستوى تسويق مخرجات البحث العلمي.
دون معرفة الاحتياجات
وحول المعوقات التي تواجه تطوير جودة التعليم، أشار رئيس الجامعة الافتراضية إلى غياب السياسة الرقمية والنموذج الرقمي للتعليم، وسياسة الاستيعاب الشاملة المتقادمة التي تسبّبت بعدد تراكمي من الطلاب دون معرفة ما يحتاجه سوق العمل منهم، وهذا الحديث ينطبق حتى على الكليات العلمية، فضلاً عن النظرة الدونية للتعليم المهني، وعدم تمايز جامعاتنا عن بعضها، فهي نسخة طبق الأصل.
دعم معكوس
ورأى العجمي أن الدراسات العليا محكومة بالتخصصات الضيقة بعيداً عن التخصصات البينية، كما أن بيئة الابتكار تحتاج دعماً وتمويلاً، فالحاضنات التكنولوجية موجودة لكن لا تدخل فيها استثمارات خاصة، وصناديق تمويل الابتكار غائبة عنا، موضحاً أنه لا بد من تعديل سياسة الاستيعاب، والعمل على تحويل الدعم المالي من المؤسسة إلى الطالب، فلا يوجد تقبل لهذه الفكرة حتى الآن، إلى جانب تحقيق الاستقلالية الإدارية للجامعات، وتحديث آليات العمل الأكاديمي وتحقيق تمايز بين الاختصاصات، معتبراً أن التوجّه بدعم التعليم قبل الجامعي أصبح للأسف معكوساً، حيث تنتشر المدارس الخاصة بشكل كبير.
وأضاف العجمي أنه لا يمكن تطوير مكون دون آخر، فالاقتصاد القائم على المعرفة يحتاج خريجين أكفاء مع تطوير السياسات والتشريعات وتدريب الأساتذة والمعلمين، فلا يمكن أن نحصل على منتج بجودة عالية بلا كادر بجودة عالية.
الأقل إنفاقاً
بدوره الدكتور باقتصاد المعرفة عدي سلطان، أكد أن مخرجات التعليم مهمة لرفد القطاعات الأخرى للارتقاء بمستوى الجودة، معتبراً أن قانون تنظيم الجامعات يقف عائقاً أمام تطوير مخرجات التعليم العالي لأنه قديم، إذ يجب تطوير البنية التشريعية باتجاه التحفيز، وانتقاء وتطوير معايير المفاضلة واختيار أعضاء الهيئة التدريسية، إلى جانب إدارة المعرفة من حيث التكنولوجيا، أما الإنفاق على البحث العلمي فلا بد من زيادته ليرتقي بالأبحاث المقدمة، فسورية من أقل الدول إنفاقاً على البحث العلمي. ولفت سلطان إلى أهمية التركيز على مؤشرات التنافسية بالجامعات السورية لرفع تصنيفها، والنظر بجدية أكبر إلى تكنولوجيا المعلومات في التعليم، وإدارة المعرفة والابتكار.
تناسب طردي
الدكتورة دانيا زين العابدين عميد إدارة الأعمال بجامعة المنارة أشارت إلى أهمية أنظمة إدارة الجودة في المؤسسات التعليمية وفقاً لمتطلبات المواصفة الدولية ISO 21001 ، لافتة إلى دور المخرجات الجامعية الجيدة في تغذية سوق العمل، فكلما كانت هذه المخرجات تتمتع بالجودة فإن سوق العمل والقطاعات الأخرى ستكون غنية بما تقدمه من منتجات عالية القيمة وفقاً للمقاييس العالمية.