ما لم يقُلْه ماكرون في واشنطن!
أحمد حسن
مهما كان السياسي “مراوغاً” فلا بدّ أن يصدق يوماً ما، ولو كان صدقه حينها مصلحياً أو ناقصاً، وتلك هي حالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي “فعلها” مؤخراً حين تحدّث أمام لجان الكونغرس والجالية الفرنسية في زيارته الأخيرة إلى واشنطن عن “شعور أوروبي وفرنسي خصوصاً بالتخلّي الأمريكي عن أوروبا اقتصادياً باتخاذها جملة قرارات تؤذي أوروبا التي تعيش تداعياتٍ مؤلمة لحرب أوكرانيا”، ما يهدّد “بشرخ عبر الأطلسي لا يمكن جسرُه”، كما قال.
ماكرون، وإن استخدم لفظة “شعور” لوصف ما يعتري أوروبا من هواجس ومخاوف، إلا أنه كان يعني ذلك كحقيقة أبعد من مجرد إحساس غائم، فهو حدّد الإجراءات الأمريكية بـ “فوارق كلفة الطاقة بين أميركا والدول الأوروبية، وإلى إجراءات التحفيز للشركات الأوروبية للانتقال إلى أميركا وإجراءات الحماية العالية للصناعات الأميركية التي تنافس الشركات الأوروبية”؛ وأكثر من ذلك تحدّث الرجل، علناً، عن سلوك أمريكي “لا يليق بالأصدقاء ورفاق الخندق الواحد”، وتحديداً عن “بيع الولايات المتحدة لبلاده الغاز بأربعة أضعاف السعر الذي كانت تحصل عليه فرنسا من روسيا”.
بكلام أكثر دقة، هذه حرب اقتصادية سافرة تشنّها واشنطن على القارة العجوز، لكن ما لم يقُله ماكرون، أن هذه “الحرب” لا تشبه تلك التي تدور في سياق المنافسة المعتادة بين الدول، بل في سياق الهروب الكبير، والفردي، من الانهيار القادم – أي “ربي أسألك نفسي” – الذي حدّده كتاب جديد للمؤرخ والباحث الأميركي ألفرد وليم مكّوي، بنهاية العقد الحالي نتيجة المنافسة مع الصين، بحيث “تحافظ واشنطن على حضورها القوي، إنما في حدود أميركا الشماليّة”، واللافت في الأمر أن عبارة “العقد الحاسم” – في التنافس مع الصين والأمن في أوروبا – وردت أيضاً في حديث لوزير الدفاع الأمريكي يوم السبت الماضي.
هذا، وغيره، ما يفسّر للمراقبين نبرة المرارة في كلام ماكرون، لكنها مرارة الضعفاء الذين ليس بيدهم حيلة، فـ “الولايات المتّحدة، في مواجهة تحدّيات العصر، تنظر أولاً إلى الولايات المتّحدة، وهذا أمر طبيعي (..) ثم تنظر إلى التنافس مع الصين، وبطريقة ما، تصبح أوروبا وفرنسا أشبه بعامل متغيّر” كما قال الرجل، الذي سمع الرئيس الأمريكي وهو يردّ على مطالبه بصلافة واضحة قائلاً إنه “لا يقدّم أيّ اعتذار عن القانون الجديد” لخفض التضخّم أو حول إعفاءاتٍ أمريكية ضريبية ضخمة لشركاتها، ودعم مالي “لأيّ شركة عالمية تختار إنشاء عمليات جديدة أو توسيع العمليات القائمة لصناعة الرقائق على الأراضي الأميركية”، وهذا يعني، بالنتيجة، أن “يفقد الآلاف وظائفهم عبر الاتحاد الأوروبي”، و”أن تفقد القارّة القديمة جاذبيّتها للاستثمارات الرأسمالية، وتسقط في لجّة ركود اقتصادي مضاعَف”.
وبذلك فإن ماكرون الذي حذّر من أن ذلك قد يقود إلى “تفتيت وحدة الغرب”، لم يجد أمامه سوى الحديث عن “الرابطة الفريدة” بين الولايات المتحدة وفرنسا باعتبارهما بلدين “فخورين للغاية أو واثقين للغاية من أنفسنا، لأننا نعتقد أننا مسؤولون عن حماية قيم عالمية معينة”!
هذا بعض ما قاله ماكرون، لكن ما لَم يقُله، وهو الأهم، أن هذه “القيم العالمية المعيّنة” والمشتركة! لم تسعفه إلا بتحصيل “وعود غائمة” لفرنسا وأوروبا من شريكهما الآخر فيها، أي واشنطن، وأكثر من ذلك فإن ما لم يجرؤ ماكرون على قوله – لأنه يحمّله شخصياً هو ونظراءه الأوروبيين المسؤولية عمّا وصلوا إليه – قاله عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حين ذكّر مؤخراً “بأن أوروبا تحوّلت بتخاذل قادتها إلى مجرد عبد عند السيد الأميركي، وأن لا جدوى من الرهان على موقف أوروبي مستقل عن السياسات الأميركية رغم الإذلال المتمادي من الأميركيين للأوروبيين!”.