في مرحلة هي الأقسى.. المطلوب سياسات مبنية.. رؤى استشرافية وخطط تكتيكية وأن يكون تعزيز الإنتاج هو البوصلة!
البعث الأسبوعية – المحرر الاقتصادي
عرّت القسوة غير المسبوقة لهذه المرحلة على الصعد كافة، كل من عجز الحكومة، وطفيلية القطاع الخاص بآن معاً، وقد تبيّن بالنسبة للأولى أنها غير قادرة على تحمل مسؤولياتها، وأنها لا تجيد وضع الخطط التكتيكية منها والإستراتيجية، وأنها تعتمد سياسات الترقيع بدلاً من سياسات الحلول المستدامة، بدليل أنها سرعان ما لجأت إلى أسهل الحلول عند نقص توريدات المشتقات النفطية، وذلك من خلال إعطاء شركات خاصة امتياز توريد المشتقات النفطية للفعاليات الاقتصادية بأسعار مرتفعة “4900 ليرة للتر البنزين” و”5400 ليرة لليتر المازوت”، جاهلة أو متجاهلة انعكاسها على السلع والمواد المرتفعة بالأصل، وأن حصر بيعهما في عدد محدود من محطات الوقود، سيشعل أسعارهما في السوق السوداء، علماً أن سعر البنزين وصل في الأخيرة إلى 20 ألف ليرة، وسعر المازوت بلغ 10 آلاف ليرة، ولنا أن نتصور كم سيرتفع سعرهما خلال الساعات القليلة القادمة!
كما أن بلاغ رئاسة مجلس الوزراء بتعطيل يومي الأحد من الأسبوعين القادمين، دليل آخر على اعتماد هذه الحكومة على أبسط الحلول غير المجدية بالأصل!
نعتقد أنه لو كان لدى الحكومة دراسات معمقة وإحصاءات ومؤشرات دقيقة حول الواقع الاقتصادي، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن من ندرة “تصل إلى الشح” بالمشتقات النفطية!
ولو كان لديها رؤية استشرافية، لكانت قد وضعت خطط بديلة تقيها شرّ النكبات المفاجئة منها والمتوقعة، لكن على ما يبدو أنها حكومة منفعلة تتعامل بردة الفعل، وليست فاعلة تتعامل بالمبادرة!
ظروف موضوعية!
مع إقرارنا بالطبع بالظروف الموضوعية الخارجة عن إرادة الحكومة من عقوبات وحصار، إلا أن ذلك لا يعني أنه لم يكن هناك تقصير ذاتي ينم عن عجز وقصور بالرؤى، حالا دون ضبط سعر الصرف من خلال تعزيز الإنتاج.. ليأتي قرار رفع الأسمدة بنسبة 100% ليقضي على ما تبقى من أمل بإنعاش القطاع الزراعي، وليؤكد بذات الوقت بأن الحكومة تجاري التضخم من جانب تعزيز إيراداتها، ولا تجاريه من جانب تعزيز القوة الشرائية!
واقع مرير
إذاً نحن أمام واقع متخم بالمرارة نتيجة السياسات الحكومية المتخبطة، فإذا ما اعتبرنا أن هذه المرارة هي بمنزلة إعلان غير مباشر عن فشل هذه السياسات، فيفترض بالحكومة إن كانت جادة بالفعل بالخروج من عنق الزجاجة الاستعانة بالخبرات الاستثنائية بعيداً عن المحسوبيات عسى أن تنقذ الموقف، والاشتغال الفعلي على استثمار الموارد بالشكل الأمثل، واعتماد سياسات مالية تشجيعية لإنعاش الإنتاج!
ينسحب على “الخاص”
ينطبق ما سبق ذكره على القطاع الخاص في كثير من الجوانب، ولاسيما إذا ما علمنا أنه لا يمكن لأي اقتصاد وطني أن يمتن أواصره ويحقق أعلى معدلات نموه دون أن يتضافر كلاً من قطاعيه العام والخاص في وحدة متكاملة لا يطغى فيها أو يتعدى إحداهما على الآخر، ليستطيعا السير بتناغم وانسجام بما يحقق المصلحة العامة، وذلك من خلال أن يقوم الأول بالتخطيط الاستراتيجي ضمن رؤية واضحة تحدد مسار الثاني ويشرف عليه ويضبط حركته ونشاطه الاستثماري والتجاري -لاسيما بعد حصوله على الكثير من المزايا التشجيعية- حتى لا يخرج عن القوانين والأنظمة النافذة، ولا يقع -في بنفس الوقت- في مطب الطفل المدلل ويتحول تدريجيا إلى طفيلي جبان، وبذلك يكون عمل كلا القطاعين متوازنا بموجب معادلة تخول كل قطاع أن يقوم بدوره المنوط به.
معادلة غير متوازنة
لكن هذه المعادلة في سورية تفتقد في كثير من الأحيان لتوازنها واستقرار كفتي ميزانها المتأرجحتين يمينا ويسارا دونما الأخذ بعين الاعتبار بما سيحققه كل طرف، ما يتمخض عن ذلك تجاوزات من العيار الثقيل، ليس أولها فتح أبواب الرشاوى والدفع من تحت الطاولة وفوقها، وليس آخرها حالات الاحتكار الكبرى وما جلبته من أرباح تقدر بالمليارات وليس بمئات الملايين حسب ما أكده بعض العارفين بخفايا الصفقات المشبوهة.
وضع غير صحي
هذا الوضع غير الصحي الذي أضاع -وسيضيع في حال استمراره- أموالا بأرقام فلكية على الخزينة العامة من جهة، وألحق الضرر بالمستهلك (وهو الضحية الكبرى) جراء ما اقترفه ويقترفه حيتان السوق المحلية، ما حدى ببعض الغيورين على المصلحة العامة بالمناداة إلى إعادة النظر بالدور الذي حظي به القطاع الخاص ونتج عنه من أضرار لامست لقمة عيش المواطن من جهة استيراده للمواد الأساسية اليومية خاصة الغذائية منها.
البحث عن أسواق
إن اضطلاع القطاع الخاص بمسؤولياته يقتضي بالدرجة الأولى أن يكون شريكاً حقيقياً بالتنمية، وأن يدرك أن البلد يعيش بضائقة تستدعي البحث عن أسواق تصديرية جديدة لاسيما في ظل وجود سلع في سورية إنتاجها قابل أن يوائم متطلبات أسواق عديدة خارجية لتحقيق زيادة ملموسة للصادرات السورية وخاصة الزراعية منها، وهذا يوجب عليه دراسة آليات أفضل لإنتاجها ومعالجتها سواء من ناحية التعبئة والتوضيب والتغليف، أو من ناحية وجود علاقات تجارية متميزة، واتفاقيات تأطير للتبادل التجاري من معارض وتسويق..الخ وبالتالي لابد من اتخاذ خطوة أساسية في هذا الاتجاه، لا أن يرفع شعار “فتح باب الاستيراد على مصراعيه” تحت ذريعة تأمين احتياجات الأساسية، مغلباً بذلك الاستيراد على التصدير لكونه أكثر سهولة من الثاني الذي يحتاج إلى جهود وعمل منظم وعلاقات خارجية تصعب على التاجر العادي القيام بها.
أزمة
إن الاقتصاد السوري يواجه الآن أزمة كبيرة بسبب ضعف الإنتاجية وضعف الإدارة وعدم دعم الدولة للمنشآت الاستثمارية، وهذا يحتم علينا دراسة هذه الأمور دراسة وافية وإجراء تغييرات جذرية على كثير من المسائل الاقتصادية والتحرك أكثر وبسرعة أكبر لحماية منتجاتنا، لاسيما في ظل ظهور تحديات جديدة لم تكن مألوفة بعضها مرتبط بالبيئة الاقتصادية والسياسات الاقتصادية في البلاد، والبعض الآخر مرتبط بطبيعة التنافسية في العالم، فضلاً عن العقوبات والحصار، والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن التطورات السياسية العالمية، ولعل تدني القدرة التنافسية للمنتجات السورية تتضح بقطاع الغزل والنسيج القطاع الذي طالما كان قائدا تاريخيا في سورية، وكان الأتراك والدول العربية يستوردون منتجاتنا، واليوم نحن غير قادرين على المنافسة في الأسواق العالمية والإقليمية بسبب ضعف الإدارة في القطاع العام أولا قبل القطاع الخاص كون قطاع الغزل والنسيج قطاع عام بالدرجة الأولى.
معضلة أخرى
كما تبرز لدينا معضلة أخرى ساهمت بتدني الإنتاج تتمثل بتحول معظم الصناعيين إلى تجار وبالتالي يمكن لهذه الخطوة أن تؤثر على تراجع قيمة الصادرات السورية، والسبب في ذلك يعود إلى تحرير التجارة الخارجية المنفلت خلال الفترة الماضية في ظل ظروف غير مواتية للصناعة السورية موضوعيا وذاتيا، وفي ظل عدم وجود بيئة مناسبة لأن تكون الصناعة السورية ذات تنافسية عالية وقادرة على الصمود في وجه المستوردات التي تأتينا من كل حدب وصوب وبنوعيات سيئة وبأسعار غير حقيقية وبتسعيرة جمركية غير كافية، فكل ذلك أدى إلى تراجع كثير من الصناعات السورية التي كانت ناجحة في وقت سابق، وعندما تتراجع الصناعة قد يضطر الصناعي للتحول إلى التجارة كون الأخيرة أكثر سهولة ويسر من الأولى، لكن في النهاية هذه ظاهرة غير صحية، لذلك علينا أن نكون أكثر حرصا للمحافظة على العدد الأكبر من الصناعيين لزيادة القدرة الصناعية السورية، كون أن الصناعة تحقق القيمة الحقيقية المضافة، وبالتالي زيادة قيمة الصادرات.
ميزة نسبية
في سياق الحديث عن التصدير ودوره بتأمين إيرادات بالقطع الأجنبي، تجدر الإشارة إلى ضرورة الالتفات إلى “صناعات الميزة النسبية التنافسية”، والتي تشكل قطاعا واسعا في سورية رغم أنها لا تلقى الدعم المطلوب من جهة رفع سوية هذه الصناعات بحيث تصدر إلى معظم دول العالم إن لم نقل كلها، أو من خلال القيام بحملات ترويجية وتعريفية في الأسواق والدول الخارجية، مثل صناعة قمر الدين والحلويات الشرقية وصابون الغار والفواكه المجففة…الخ فلا تزال هذه الصناعات مبعثرة في سورية بمعنى أن أغلبها لا يزال مقتصرا على ورش صغيرة تلبي حاجة شريحة معينة من الذين يعرفون القيمة الحقيقية والفعلية لها كونها غالبا ما تحاكي الطبيعة أكثر من بقية الصناعات الأخرى، فهي تفتقر إلى التنظيم والتطوير اللذان من شأنهما أن يحلقان بها إلى أقاصي الدنيا.
وفي ذات السياق نذكّر أن الحلويات الدمشقية الشرقية سبق وأن غزت أسواق دول ما وراء البحار نتيجة ما لاقته من تنظيم وتطوير سواء من جهة ابتكار أصناف وأنواع جديدة لها أصول تاريخية عريقة، أو من جهة التوضيب والتغليف، فضلا عن حملات الترويج والتعريف في الأسواق المستهدفة التي غالبا ما توكل هذه المهمة للجاليات السورية في بلاد الاغتراب، وبالتالي فإن سر نجاح الجالية في هذا الأمر يعود إلى اختلاطها المباشر بالزبائن المفترضين وإقناعهم بإسلوب الدعاية الشفوية والتجريب المباشر بصحة الحلويات السورية ولذتها، ما أتاح المجال واسعا أمام تصديرها بكميات متباينة حسب كل دولة.
أخيراً.. وعلى اعتبار أن سورية سبق وأن حققت نجاحات بالمنافسة بصناعات نُسبت إليها بامتياز، فلما لا تُطور هذه الصناعات لتحقيق قيم مضافة كبيرة خاصة تلك الاستهلاكية مثل صناعة قمر الدين الذي تستجر منه مصر كميات كبيرة، وكذلك الفواكه المجففة وصابون الغار وغير ذلك من صناعات تقليدية سورية غزت ولو بشكل محدود كبرى الأسواق العالمية، عساها أن تكون بداية جديدة لتعزيز تواجد المنتج السوري في هذه الأسواق خاصة في مرحلة بتنا أحوج ما نكون فيها إلى الاعتماد على الذات، دون أن نقحم أنفسنا بخطط صناعية فاشلة سواء من جهة الجودة والنوعية أو من جهة السعر المنافس لاسيما الثقيلة منها وذات التقنية العالية التي تحتاج إلى خبرات عالية وإمكانات مادية كبيرة فضلا عن صعوبة تصريفها في أسواق غصت بصنوف وأنواع من كل حدب وصوب.