مجلة البعث الأسبوعية

قصة من قصص الفصل العنصري الصهيوني في الأراضي المحتلة

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

ولد محمد أبو شارب في قطاع غزة، وأمضى معظم حياته في الأراضي الفلسطينية المحتلة. درس السينما، ويعمل الآن طاهياً مساعداً بعيداً عن والدته التي لم يراها منذ 20 عاماً بقرار من سلطات الاحتلال الصهيوني.

لا يملك محمد سوى ذكرى غامضة عن لقائه الأخير مع والدته. يتذكر أنه رافقها في سيارة أجرة إلى حاجز للاختلال على الحدود مع قطاع غزة ، وأنها قبل أن تذهب أصرّت على وضع التذكرة في يده، 100 شيكل (حوالي 22 دولار في ذلك الوقت). كان يعلم أنه مبلغ كبير بالنسبة لها، لكنه أخذ المال رغم ذلك. ثم نزلت من السيارة واختفت فيما استقل محمد تاكسي عائداً إلى بئر السبع، ولا يتذكر أي شيء آخر. لم يكن بإمكان أي من الأم والابن أن يتخيلا أن هذا سيكون آخر لقاء بينهما لسنوات عديدة. خلال العشرين عاماً التي تلت ذلك، لم ير محمد، الذي بلغ من العمر 39 عاماً، والدته أسمهان التي بلغت 58 عاماً، رغم أنهما يعيشان على بعد ساعة ونصف فقط من بعضهما البعض بالسيارة، بسبب القيود الصارمة التي فرضتها سلطات الكيان الاسرائيلي حول الدخول والخروج من القطاع المحاصر.

منذ عام 2002، ظلت الأم والإبن على اتصال عبر الهاتف فقط. لم تكن طفولة محمد عادية كونه عاش بدون أسرة وبلا أم ولا أب، وبسبب المصاعب التي عانى منها، كان أكبر من زملائه بسنتين، وعلى عكسهم، لم يكن يعرف العبرية، رغم أن إحدى عماته كرست نفسها لتعليمه اللغة في سنواته الأولى. في عامه الأول في الكلية، في كانون الأول 2008، شنت سلطات الكيان الاسرائيلي عملية “الرصاص المصبوب” على قطاع غزة، حيث استشهدت جدته بصاروخ إسرائيلي، وجد محمد نفسه عالقاً في مرمى النيران، ممزقاً بالداخل وخائفاً من الكشف عن هويته، وعندما كان طفلاً صغيراً في الحورة ، كان الناس يقولون إنه” غزاوي “، لكن هو لم يدرك حتى وقت لاحق أن هذه ليست إهانة .  وعندما سئل خلال مقابلة القبول في كلية سابير عما يضايقه في الحياة، كذب قائلاً إنه مستاء من حرق القمامة في قرية الحورة الذي أضر بالبيئة. ما كان يحدث في غزة في ذلك الوقت كان يضايقه أكثر بكثير، لكنه كان يخشى الاعتراف بذلك.  و على الرغم من أنه كان غير سعيد في كلية سابير، حيث شعر بأنه مضطر لإخفاء هويته، إلا أنه أكمل دراسته الجامعية في السينما. قاده بحثه عن نفسه إلى العمل في مجال المطاعم، حيث شعر أنه لم يكن مستعداً بعد ليصبح مخرجاً سينمائيا، على الرغم من شهادته. تدريجياً، أدرك أن الفترة التكوينية من حياته، الجزء الذي غرق في وعيه، كانت أول 11 عاماً له في قطاع غزة. قال إن قرية “الحورة” كانت “فترة رمادية”، أما فترة غزة هي الفترة التي يجب أن يتعامل معها، خاصة مع والدته وقصة حياتها، حيث كانت ضحية دائمة للأسرة والبيئة الاجتماعية التي نشأت فيها، امرأة بدوية لم يُسمح لها بتقرير أي شيء عن مصيرها، وطبعا ضحية تعسف النظام الإسرائيلي الذي منعها من لقاء ابنها. يقول محمد: “عاشت والدتي، وهي بدوية، من غزة، في هذه الرحلة بأكملها التي لم تقرر خلالها شيئاً بشأن حياتها، بل الآخرون هم من كانوا يقررون لها”.

قبل بضع سنوات، اقترب محمد من منظمة “مسلك”، حول حقوق الإنسان مكرسة لحماية حرية التنقل لسكان المناطق، خاصة عند دخول قطاع غزة والخروج منه. طلب المساعدة من المنظمة لترتيب لقاء مع والدته، فبسبب الحصار المفروض على قطاع غزة، والذي استمر منذ عام 2007، فإن عدة مئات من العائلات معزولة عن أفراد الأسرة الآخرين في قطاع غزة. بحسب قوانين الكيان الاسرائيلي، ينتمي محمد إلى فئة “العائلات المنقسمة”، والتي تشير إلى عائلات الإسرائيليين المتزوجين من سكان غزة، الذين لا يمكنهم العيش في حياة أسرية مشتركة إلا إذا كانوا يعيشون جميعاً في غزة. وبموجب “إجراء العائلات المقسمة”، يحق للأطفال الإسرائيليين الذين يعيش آباؤهم في غزة السفر إلى قطاع غزة، بشرط الحصول على تصريح يجب طلبه في كل زيارة حتى بلوغ سن الـ 18، بعد ذلك، تكون اللقاءات مع والديهم شبه مستحيلة. في السنوات الأخيرة، قيدت سلطات الكيان قدرة أي شخص تقريباً على دخول غزة أو مغادرتها. يمكن للأطفال الذين تبلغ أعمارهم 18 عاماً أو أكثر زيارة والديهم فقط في ظروف “إنسانية واستثنائية”، أي إذا كان أحد الوالدين مريضاً بشكل خطير، أو إذا كان بهدف الزواج أو الدفن. بصرف النظر عن ذلك، لا توجد وسيلة للأم لمقابلة ابنها، وابنة لرؤية والدها،  ففي إطار معيار “العائلات المشتتة” ووفقاً للقرار على المستوى السياسي لتقليص حركة المرور بين ما تسمى “دولة إسرائيل” وقطاع غزة، تتبنى السلطات سياسة تقييدية للغاية فيما يتعلق بالدخول من المدن المحتلة إلى قطاع غزة، بحيث لا يتم إصدار تصاريح الدخول إلا في حالات استثنائية يكون فيها مبرر خاص. هناك أيضاً فرصة ضئيلة لأن يجد محمد والدته في بلد ثالث، وهنا الحديث عن مغادرة غزة عبر مصر وهو أمر معقد للغاية، وينطوي على ظروف قد لا تتمكن والدة محمد من مواجهتها. في هذا السياق، يقول محمد إنه بعد الاجتماع مع منظمة “مسلك” شعر بعقد من الغضب يتشكل في أحشائه لجهة أن امرأة مسنة بمفردها تضطر إلى النوم في الخارج لبضع ليال لتتمكن من العبور إلى مصر. ويضيف: “أغضب عندما أتخيل والدتي في هذا الموقف، وأعيش كذبة عندما أقول لنفسي أن كل شيء على ما يرام، لأنه لا يوجد شيء على ما يرام”.

قصة محمد تلخص قصة معاناة الفلسطينيين المريرة، سواء في قطاع غزة أم في المناطق المحتلة من اضطهاد وحرمان من الحقوق الأساسية وتمييز عنصري، ومصادرة أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم دون أي رادع أو أي محاسبة على جرائم الكيان المحتل المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني.