الضحية الأولى للفوضى الأمريكية
عناية ناصر
اشتهرت المملكة المتحدة لقرون عديدة بسياستها القاسية لدرجة أنها لقبت بـ الغادر البيون، وهو تعبير ازدرائي يستخدم في سياق العلاقات الدولية الدبلوماسية للإشارة إلى أعمال الخداع الدبلوماسي، والازدواجية، والخيانة للدلالة على القسوة وخلق أكبر إمبراطورية للكفاءة في تاريخ العالم .
لذلك، نادراً ما يكون هناك تناقض أكبر مع الفوضى التي تعصف بالسياسة البريطانية هذا العام مما يجعلها تقريباً أضحوكة دولية، حيث كان للمملكة المتحدة ثلاثة رؤساء وزراء في عام واحد، الأول بوريس جونسون، الذي أُطيح به بعد تحقيق للشرطة بشأن خرق قوانين الإغلاق الخاصة بفيروس كونا، وليز تراس التي استقالت بعد 44 يوماً فقط من توليها لمنصبها في فترة تعتبر أقصر رئاسة وزراء في التاريخ البريطاني. أما الثالث، فكان ريشي سوناك، الذي تولى منصبه على الرغم من رفضه من قبل أغلبية أعضاء حزب المحافظين الحاكم قبل أسابيع قليلة.
ولإضافة مزيد من الانهيار السياسي، كان لدى المملكة المتحدة أربعة وزراء للخزانة خلال أربعة أشهر، حيث استمرت إحداها 38 يوماً فقط، وهي الأقصر في التاريخ البريطاني، باستثناء المستشار الذي توفي وهو في منصبه، والذي قدم خلال ذلك الوقت ميزانية كارثية تسببت في أزمة مالية وطنية أدت إلى اسقاط رئاسة وزراء تراس.
ونتيجة لهذه الفوضى تراجع حزب المحافظين الحاكم بأكثر من 30 في المائة عن حزب العمال المعارض في استطلاعات الرأي، ويعود تفسير الانحدار من الكفاءة السياسية القاسية إلى المهزلة هو أن المملكة المتحدة أصبحت الحالة الأكثر تعبيراً عن الفوضى التي تجلبها سياسة الولايات المتحدة حالياً إلى أوروبا، على الرغم من أن المملكة المتحدة هي تاريخياً الحليف الأكثر ولاءً للولايات المتحدة في تلك القارة.
من الواضح أن الفوضى الحالية في أوروبا هي الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، إذ بلغ معدل التضخم أعلى مستوياته منذ أكثر من 30 عاماً، والنمو الاقتصادي هو الأبطأ منذ الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى الحرب التي تدور في القارة في أوكرانيا.
يعكس الاستياء الناتج عن ذلك، أن العديد من الحكومات الأوروبية لا تحظى بشعبية كبيرة، بالإضافة إلى المملكة المتحدة، التي تم تناولها من قبل، تم في السويد وإيطاليا استبدال حكومات يسار الوسط بمكاسب انتخابية كبيرة لليمين المتطرف، بينما في فرنسا، عانى الرئيس اليميني من خسارة كبيرة في المقاعد البرلمانية لقوى اليسار القوي.
تعود هذه الفوضى على مستوى القارة بشكل مباشر إلى سياسات الولايات المتحدة في أوروبا، والتي تم إنشاء الكثير منها من خلال اتباع سياسات الحرب الباردة ضد الصين، إلا أن حالة المملكة المتحدة تعتبر حرجة بشكل خاص لأنها اتبعت سياسات إدارة ترامب في انسحاب غير عقلاني اقتصادياً من الاتحاد الأوروبي من أجل البحث عن روابط أوثق مع الولايات المتحدة.
كانت السياسات الأمريكية في أوروبا في السابق ضارة، ولكنها غير كافية لزعزعة استقرار الوضع. على سبيل المثال، كانت الحملة الأمريكية لمنع مشاركة “شركة هاواوي” في شبكة الاتصالات الأوروبية، والتي نجحت في بريطانيا، تعني أن المملكة المتحدة تدفع أكثر من اللازم مقابل تقنية الجيل الخامس للاتصالات، وهو أمر مدمر، ولكنه ليس بالقوة الكافية لزعزعة استقرار بريطانيا.
لكن سياسات الولايات المتحدة أصبحت الآن مدمرة بما يكفي لزعزعة استقرار القارة الأوروبية:
أولاً: كان التهديد بدخول أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهو أمر تدرك الولايات المتحدة أنه يهدد روسيا عسكرياً بشكل مباشر وهو السبب الحقيقي لحرب أوكرانيا، حيث اتبعت الولايات المتحدة هذه السياسة بشكل مباشر في محاولة لإضعاف روسيا. وفي ألمانيا، من خلال إجبارها على شراء غاز أمريكي باهظ الثمن بدلاً من الغاز الروسي الرخيص، وسعت الولايات المتحدة أيضاً إلى ترهيب روسيا لقطع العلاقات الجيدة مع الصين، لكن بدلاً من ذلك، قاومت روسيا هذه الهجمات ضد مصالحها الوطنية الحيوية، وهكذا خلقت السياسة الأمريكية أكبر حرب أوروبية منذ عام 1945.
ثانياً: نشأ التضخم المزعزع للاستقرار في أوروبا في الولايات المتحدة، وليس في أوكرانيا، كما يظهر التسلسل الزمني بوضوح، حيث ارتفع معدل التضخم في الولايات المتحدة من 0.1 في المائة في أيار عام 2020 إلى 7.5 في المائة في كانون الثاني عام 2022 .
كان التضخم في الولايات المتحدة بسبب سياسات التحفيز المفرطة التي تم تبنيها في محاولة فاشلة لمواكبة النمو الاقتصادي الصيني، حيث ازداد المعروض النقدي في الولايات المتحدة بنسبة 27٪ خلال عام، في حين قفز فائض الإنفاق الحكومي الجاري على الدخل الحالي إلى 26٪ من إجمالي الناتج المحلي، وأدى ذلك إلى تحفيز كبير على جانب الطلب، حيث ارتفع الاستهلاك الأمريكي بمقدار 3436 مليار دولار بين الربع الأخير من عام 2019، والربع الثالث من عام 2022، ولكن على جانب العرض، انخفض صافي الاستثمار الثابت في الولايات المتحدة بمقدار 52 مليار دولار في نفس الفترة.
لقد أدى الارتفاع الهائل في الطلب، مع عدم وجود زيادة في العرض، إلى حدوث أكبر موجة تضخمية في الولايات المتحدة منذ 40 عاماً، والتي امتدت بشكل حتمي إلى أوروبا.
عندما رفضت الحكومة البريطانية إظهار استقلالها عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة – حيث أصبحت أكبر مشجعة للولايات المتحدة بشأن أوكرانيا – عانى الاقتصاد البريطاني والبريطانيين بشدة من جراء التضخم في الولايات المتحدة، ومن المتوقع رسمياً أن ينخفض متوسط الدخل بنسبة 7٪ في العامين المقبلين.
لقد حلت الفوضى السياسية، محل الكفاءة التاريخية للمملكة المتحدة، و ذلك أصبحت المملكة المتحدة الضحية الأولى للفوضى الحالية التي تخلقها السياسة الأمريكية في أوروبا، لكن ما لم تُظهر الحكومات الأوروبية بعض الاستقلال عن الولايات المتحدة، فلن تكون بمنأى عما يحدث في بريطانيا .