ثقافةصحيفة البعث

“تذكريني وقولي: كم كان يخشى الشّتاء”!!

نجوى صليبه

مع هطول أوّل حبّة مطر، وارتقاء أوّل رائحة للأرض من كلّ خريف، تصدح فيروز عبر أثير معظم المحطّات الإذاعية السّورية، إن لم نقل جميعها “رجعت الشّتوية.. ضل افتكر فيّ”، معلنةً بدء الشّتاء بكلماتٍ قليلة، كتبها ولحّنها الأخوان رحباني في وصف فصل الخير والـ “كنكنة”، وعلى الرّغم من مرور سنوات طويلة على إنتاجها، ما تزال هذه الأغنية ببساطتها وسلاستها تدغدغ مشاعر وأحاسيس مفارقين يرددونها بحزن وشوق وحنين، مخبئين دموعهم عن عيون آخرين يصيبهم الشّتاء بكآبة طويلة لا تنتهي إلّا مع تفتّق أزهار الرّبيع، وكأنّ الشّاعر نزار قباني (1923 – 1998) كان يخصّهم بقوله:

إذا أتى الشّتاء وحرّكت رياحه ستائري

أحسّ يا حبيبتي بحاجة إلى البكاء

على ذراعيك.. على دفاتري

وانقطعت عندلة العنادل وأصبحت كلّ العصافير بلا منازل

يبتدئ النّزيف في قلبي وفي أناملي

كأنّما الأمطار في السّماء تهطل يا صديقتي في داخلي

ولم يكن “الأخوين رحباني” وحدهما من تغنّى بالشّتاء، بل هناك قصائد مغنّاة كثيرة تبرع في وصف الحالة النّفسية التي يسببها هذا الفصل، وإن كانت قد ظُلمت من حيث البثّ عبر المحطّات الإذاعية والتّلفزيونية، منها قصيدة “الرّمال” التي كتبها كلمات ولحّنها العراقي كاظم فندي وغنّاها المطرب العراقي أيضاً سعدون الجابر برهافة، نقتبسُ منها:

حبيبتي..

إنْ تجوّلتٍ يوماً بالبحر عند الشّتاء

والشّاطئان عرايا والضّفتان خواء

تذكّريني وقولي..

كم كان يخشى الشّتاء

وإن عدنا إلى تاريخ الأدب العربي، سنقرأ الكثير من قصائد العصر الجاهلي التي نُظمت في مدح أو هجاء هذا الفصل وطقوسه وتفاصيله، سواء أكان ذلك تلميحاً أم تصريحاً، فها هو امرؤ القيس (500 – 540) يقول في وصف الغيمة:

ديمةٌ هطلاءُ فيها وطفٌ  طبقَ الأَرض تجرّى وتُدر

تخرج الوِدَّ إِذا ما أَشجذت  وتواريه إذا ما تشتكر

وترى الضبَّ خفيفاً ماهراً  ثانياً برثنه ما ينعفر

ويسرح بنا الخيال مع أبي ذؤيب الهذلي، حين يسأل حبيبته عمّا إذا كان البرق الذي أضاء سماءه آتياً من صوبها، لكي يسهر ويراقبه طوال الليل، يقول:

أمنكِ برقٌ أبيت الليل أرقبه  كأنّه في عراض الشّام مصباح

يجشّ رعداً كهدر الفحل يتبعه  أدمٌ تعطّف حول الفحل ضحضاح

للشّتاء في كلّ بلد خصوصيةٌ نتعرّف عليها من خلال ما يكتبه أدباؤها، ففي كتابه “الصّيف والشّتاء”، يقدّم لنا الشّاعر المصري أمل دنقل (1940ـ 1983) صورةً من شتاء مصر، يقول تحت عنوان “شتاء عاصف”:

وكنت في الشّارع

أرى شتاء الغضب السّاطع

يكتسح الأوراق والمعاطفا

وكانت الأحجار في سكونها

النّاصع

مغسولةً بالمطر الذي توقّفا

إلى قوله:

جلست فوق الشّاطئ اليابس

وكان موج البحر

يصفع خدّ الصّخر

وينطوي حيناً أمام وجهه

العابس

وترجع الأمواج

تنطحه برأسها المهتاج

ودون أن تكفّ عن صراعها اليائس

هو الغضب السّاطع إذاً من مصر إلى فلسطين التي تعيش شتاءً بلون آخر نتلمّسه، ورائحةٌ أخرى نشتمها في قصيدة الشّاعر سميح القاسم (1939 ـ 2014) التي حملت عنوان: “أمطار الدّم”، ومنها نقتبس:

يا موقداً رافقتني منذ الصّغر، أتُراكَ تذكرُ ليلةَ الأحزان؟

إذ هزَّ الظّلامُ ناطورَ قريتنا ينادي الناسَ: هبّوا يا نيامْ

دَهمَ اليهودُ بيوتكمْ، دَهمَ اليهودُ بيوتكمْ، أتُراكَ تذكرُ؟

آهٍ يا ويلي على مُدن الخيام!

إلى قوله:

وتُدمدم الأمطارُ، أمطارُ الدَّمِ المهدوم، في لغةٍ غريبةْ

ويهزُّ زوجتهُ أبو محمود في لغةٍ رهيبةْ

قولي أعوذ.. تكلّمي، ما لون… ما لون المطر؟

ويلاه من لون المطرْ!!

إذاً، لم يعد الشّتاءُ شتاءً في فلسطين، ولم يعد موضع تغزّل ومديح كما في الشّعر البعيد، لذا يأخذ الشّاعر الفلسطيني محمود درويش (1941 – 2008) إحساسنا إلى مكان آخر في قصيدته “كنت أحبّ الشّتاء”، يقول:

كُنْتُ في ما مضى أَنحني للشّتاء احتراماً،

وأصغي إلى جسدي. مَطَرٌ مطر كرسالة

حبّ تسيلُ إباحيَّةٌ من مجون السّماء.

شتاءٌ.. نداءٌ.. صدى جائع لاحتضان النّساء.

إلى قوله:

وكنت أُحبُّ الشّتاء

وأسمعه قطرة قطرة..

مطر، مطر كنداءٍ يُزَفَ إلى العاشق:

أُهطلْ على جسدي! … لم يكن في

الشّتاء بكاء يدلُّ على آخر العمر

كان البدايةَ، كان الرجاءَ.. فماذا

سأفعل، والعمر يسقط كالشَّعر،

ماذا سأفعل هذا الشّتاء؟

لكن، هل يزيد الاكتئاب الذي يسببه الشّتاء من حدس الشّعراء؟ سؤال نقرأ إجابته فيما قصيدة “أغنية الشّتاء” للشّاعر المصري صلاح عبد الصّبور (1931ـ1981)، والتي لم يخفي فيها حدسه بأنّه سيغادر هذه الحياة قريباً، أو ربّما كان يقصد أنّه في حالة وفاة نفسية لا جسدية، مهما يكن فقد كانت وفاته في منتصف الصّيف أي بعد شهور من كتابته هذه القصيدة، يقول:

ينبئني شتاءُ هذا العام، أنَّني أموتُ وحدي.. ذاتَ شتاءِ مثلّهُ، ذاتَ شتاءْ

يُنبئني هذا المساءُ أنَّني أموتُ وحدي.. ذاتَ مساءِ مثلَهُ، ذاتَ مساءْ

وأنَّ أعوامي التي مضتْ كانتْ هباء..  وأنَّني أقيمُ في العَراء

ينبئني شتاءُ هذا العام أنَّ داخلي مرتجفٌ بردا

وأنَّ قلبي ميتٌ منذ الخريف، قد ذوى حين ذوتْ، أولُ أوراقِ الشّجر

ثم هوى حين هوتْ، أولُ قطرةٍ مِن المطر

وأنَّ كلَّ ليلةٍ باردةٍ تزيدهُ بُعدا، في باطن الحجر