مجلة البعث الأسبوعية

الأدب المترجَم حاجة ضرورية لطفلنا… ولكن!!

أمينة عباس

يقول أناتول فرانس مخاطباً الكتّاب: “عندما تكتبون للأطفال لا تتصنّعوا في الكتابة، بل فكّروا بشكل جيد جداً واكتبوا بشكل جيد جداً، وليكن كل شيء نابضاً بالحياة، ليكن عظيماً ومتسع الآفاق وقوياً، وهذا هو السر الذي يكمن وراء الإعجاب الذي يبديه الأطفال القرّاء حيال ما تكتبون”… أما المشاركون معنا في تحقيق “أدب الطفل والترجمة” فقد أكدوا أن انتقاء النّصّ المناسب للتّرجمة من أكثر المهمّات الشّاقّة التي يتصدّى لها المترجمون على الإطلاق في ظل الغزو الثقافي الذي نتعرض له، في الوقت الذي تُعدّ فيه المترجَمات حاجة ضرورية لطفلنا، فمن منا لم يقرأ حكايات “سندريلا، الجميلة النائمة، ليلى والذئب، فلة والأقزام السبعة”، وهي التي رافقت طفولتنا، ولا تزال ترافق طفولة أولادنا وهم يبحرون من خلالها في عوالم خيالية أو واقعية من أدب الطفل العالمي المترجَم عن لغات عدة؟

الترجمة حاجة ضرورية

ويشير مدير منشورات الطفل في هيئة الكتاب ورئيس تحرير مجلة “أسامة” قحطان بيرقدار إلى أهمية أن يكون هناك أدب مُترجَم للطفل، فمن خلاله يتعرّف الطفل عادات وثقافات الشعوب الأخرى وطبيعة مجتمعاتها، الأمر الذي يزيد من حصيلة ثقافته المحلية، ولا يخفي أن الأدب المترجَم في ظلّ شحّ وفقر مجتمعاتنا العربية بالمُنتَج الأدبي العربي الخاص بالطفل يلبي حاجة ملحّة لدى طفلنا، خاصة أن الذين يكتبون للأطفال في العالم العربي هم قلّة، وما هو موجود في غالبيته عبارة عن تكرار لما سبق وخالٍ من المنتجات الفاخرة في أدب الأطفال المؤلَّف، لذلك يجد بيرقدار أن الترجمة حاجة ضرورية للطفل لأننا من خلالها نحصل على نصوص مميزة وجديدة وجيدة يمكن أن نضعها بين يدي الطفل العربي، لكن وفق ضوابط ومعايير تحمي طفلنا من الغزو الثقافي، ومن أهمها ألا يتعارض ما يُترجَم مع مجتمع طفلنا، وتقديمه بلغة عربية فصحى سليمة، مع المحافظة على روح النص الأصلي قدر الإمكان، مبيناً أنه كرئيس تحرير مجلة “أسامة” وبالتعاون مع هيئة التحرير يحرص على انتقاء النصوص المترجَمة والمؤلّفة التي تشد انتباه الطفل وتثير اهتمامَه، مع تأكيده أن النص المترجَم يتفوّق على النص المؤلف في الفترة الحالية، وهو أكثر نضجاً منه وفقاً لما يصل إلى مجلة “أسامة”، موضحاً أن أهم ما يعيب النصوص المحلية والعربية التقليد والتكرار والنظر إلى طفل اليوم وكأنه طفل الأمس، وهذا العيب في رأيه من أخطر العيوب، إلى جانب عدم العناية باللغة العربية الفصحى، وهذا ما يلمسه بيرقدار دائماً من خلال وجوده في لجان تحكيم بعض المسابقات المخصصة لنصوص الأطفال التي تعاني من مشكلات كثيرة على صعيد العربية الفصحى، دون أن ينكر أن هناك مجموعة من الأقلام الشابة تقوم مجلة “أسامة” باستقطابها، تكتب وتقدم للأطفال أشياء جميلة ومميزة ومعاصرة تلائم طفل اليوم، وليس فيها هذا التقليد والتكرار لما هو سابق.

أدب الطفل المترجم

وتبيّن المترجمة تانيا حريب أن بعض الدراسات الحديثة أشارت إلى الكتابات والنقوش والصور التي خطّها المصريون القدماء على ورق البردي وجدران المعابد لشخصيات كرتونية، واستلهم السينمائي الشهير “وولت ديزني” فكرته عن الكارتون وشخصياته من زيارة قام بها إلى مقابر المصريين القدماء، موضحة كذلك أن جذور أدب الطفل تعود إلى أساطير وخرافات وحكايات شعبية قديمة تناقلتها الألسن جيلاً بعد جيل كحكايات “البانجانانترا” الشعبية أو “خزائن الحكمة الخمس”، وهي حكايات هندية قديمة تُرجمت إلى كثير من لغات العالم، وحكايات زويت التي رواها بيدبا الحكيم، والتي عُرفت بحكايات “كليلة ودمنة” التي نقلها عبد الله بن المقفع من اللغة الفارسية القديمة إلى اللغة العربية في القرن الثامن الميلادي، وخرافات إيسوب اليوناني التي نالت شهرة واسعة في أوروبا، وتضمنت حكايات ومغامرات وقصصاً عن الحيوان حملت في طيّاتها رسائل أخلاقية، وظلّت معيناً لكتّاب الأطفال الأوائل، وبيّنت حريب أنّ في القرن الحادي عشر الميلادي ظهرت ملاحم الحيوانات أيضاً، وأشهرها الفرنسية التي عُرفت باسم “رواية الثعلب”، ثم ظهرت المجموعة القصصية “الديكاميرون” أو “الأيام العشرة” للإيطالي جيوفاني بوكاشيو، وحكايات “كانتربري” الإنكليزية لمؤلفها شوسير، وتبدو فيها آثار الخرافات والأساطير، أما في فرنسا فقد ظهر الاهتمام بأدب الطفل، كما تبين حريب، من خلال أمير الحكاية الخرافية في الأدب العالمي جان دي لافونتين الذي أسهم في صياغة المرحلة التأسيسية لأدب الطفل من خلال الأشعار التي صاغها، ووُضعت على ألسنة الحيوانات والطيور، في حين أن المرحلة المفصلية في مسيرة أدب الأطفال في رأيها كانت في العام 1697 لمّا نُشِرت حكايات “أمي الإوزة” لمؤلفها شارل بيرو، التي تُعدّ أول مجموعة قصصية كُتبت لأجل الأطفال، وكانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ تطور الكتابة الموجّهة إلى الطفل، وتضم إحدى عشرة حكاية، منها: “سندريلا، الجميلة النائمة، ذات الرداء الأحمر”، وغيرها، وقد تُرجمت إلى العربية وإلى لغات مختلفة، وأشارت حريب إلى مجموعة من الكتّاب الذين اهتموا بالأدب الموجه إلى الأطفال، أشهرهم الألمانيان الأخوان غريم اللذان أصدرا مجموعة من القصص، منها “ليلى والذئب” و”الساحرة الشريرة”، والكاتب الدانماركي المشهور هانز آندرسن رائد أدب الأطفال الأوروبي، ومن مؤلّفاته التي لا تزال متداولة بين أطفال العالم ولاسيما بعد أن تُرجمت إلى لغات مختلفة: “فرخ البط القبيح” و”الأميرة وحبة الفاصولياء” و”الحورية الصغيرة”، إضافة إلى الكاتب الإنكليزي تشارلز دودجسون الذي اشتهر بقصة “أليس في بلاد العجائب” والأميركي غول هاريس مؤلف “مغامرات العم ريموس”، والإنكليزي وليم بليك صاحب المجموعة الشعرية الشهيرة “أغاني البراءة”، وغيرهم، وترى حريب أن الترجمة تتيح للأطفال الاطلاع على الثقافات الأخرى، وهي مصدر إثراء ونضج ذهني للطفل، مع ضرورة أن يراعي المترجم خصوصية طفلنا وتحقيق الإمتاع والفائدة بالقدر نفسه، وهذا في رأيها يتطلب من المترجم البراعة في اختيار النص الذي يلائم البيئة التي يعيش فيها الطفل العربي، بعيداً عن المفاهيم والقيم التي يحاول بعضهم في الغرب العمل على نشرها، مع الالتزام بنقل روح النص الأصل بأمانة ومراعاة ترجمة النص بأسلوب سلس وبسيط يتناسب مع كل فئة عمرية بطريقة تجذب الطفل إلى قراءته والاستفادة منه.

 

محظورات في الترجمة

وتوضح المترجمة ثراء الرومي أن المترجم يجب أن يأخذ في الاعتبار كثيراً من المحظورات في الترجمة، خاصة في أدب الطفل، تتعلّق بضرورة عدم نشر ثقافة التّنمّر والقسوة والعنف ورفض الآخر، وعدم الإغراق في الحزن، لأن طفل اليوم مثقل بمفرزات الحرب ومفرزات التّكنولوجيا التي غزت كلّ بيوتنا وعقول أطفالنا، مع وجود قصص يتمّ تداولها عبر مواقع التّواصل الاجتماعيّ تحمل كوارث لغويّة وتربويّة، وأحياناً أخلاقيّة، وقد تحمل توجّهات ذات طابع معيّن يقتضي الحذر الشّديد عند الاختيار، الأمر الذي يجعل انتقاء النّصّ المناسب للتّرجمة في رأي الرومي من أكثر المهمات الشّاقّة التي يتصدّى لها المترجمون على الإطلاق، مشيرة كذلك إلى ضرورة وجود قاموس ترجميّ جامع لمفردات الطّفولة من السّهل الممتنع كيلا يقع كثيرون في فخّ الاستسهال، فمترجم الأطفال عليه التّجرّد من كلّ زينته اللّغويّة، مع الحرص الشّديد على الجماليّة التي تكمن في البساطة ورشاقة اللّغة، والسّبيل الوحيد الذي نحتاج إليه بشدّة لمقاربة هذا الهدف هو إقامة ورشات ترجمة مثمرة تقوم بتأهيل مترجمين مختصّين بالتّرجمة للأطفال على غرار ورشات الكتابة الإبداعيّة التي تطلقها وزارة الثّقافة بين فترة وأخرى، لتؤهّل طاقات إبداعية بنّاءة، مؤكدة أن التّرجمة التي تخضع لإشراف مؤسّسات الدولة كالهيئة العامّة السّوريّة للكتاب تقدّم مادّة غنيّة بالقيم التربوية والجمالية، فلا يتردّد أحدنا في أن يدفع بأطفاله إلى قراءة هذه الإصدارات أو تقديمها كهديّة محبّبة دون رقابة شخصيّة منّا، مع الثّقة التّامّة بأنّها ستكون تجربة قراءة جيدة بعكس ما يغزو الأرصفة وبعض ما يسمّى بالمكتبات التي تتعامل مع الثّقافة كسلعة تُباع وتُشترى بصرف النّظر عن معاييرها عبر ترجمات تجاريّة غايتها الرّبحيّة والمنفعة البحتة.

 

الترجمة بتصرف

وحول مفهوم الترجمة بتصرف كخيار يلجأ إليه المترجم في أدب الأطفال، توضح المترجمة آلاء أبو زرار أن التصرف هو التعديل والحذف والإضافة والتطويع وفقاً لثقافة الطفل القارئ، وأن المترجم الجيد هو من يحترم النتاج الفكري الذي قدّمه الكاتب الأصلي، ويحرص على نقله بأمانة، ولكن حين يجد المترجم نفسه أمام قصة تحوي عبارات أو أفكاراً أو تسميات لا تتناسب مع الجانب الأخلاقي للطفل العربي، أو تحتاج إلى تعديلات من الناحية الجمالية للنص نظراً إلى وجود تكرار لا داعي له، أو أن تكون القصة موضوعة في سياق زمني أو ديني أو سياسي من المفضل عدم إقحامه في عالم الطفل، فهنا يجد المترجم أنه من الضروري أن يترجم بتصرف، فيعيد صياغة القصة بأسلوبه، محافظاً على الفكرة والحبكة مع حذف بعض الأمور غير الملائمة، أو مع إضافة الشيء اليسير من الأفكار التي تساعد في النهوض بالقصة لتصل إلى الطفل العربي بأفضل صورة، وبوصلته في جميع مراحل ترجمته تتجه في المقام الأول نحو الطفل القارئ لنتاج الترجمة ومراعاته لغوياً وذهنياً ونفسياً، وترى أبو زرار أن الجانب الإيجابي في الترجمة بتصرف هو أنها نوع من الإجراءات الدفاعية التي يتخذها المترجم ليحمي من خلالها الطفل من التعرض لمحتوى غير لائق أو لأفكار تشوش طفولته البريئة، أما الناحية السلبية للترجمة بتصرف فهي إجراء يحجز الطفل في إطار ثقافي يخص منطقته، ويحرمه من الاطلاع على الثقافات الأخرى، وهنا تبرز أهمية التمييز بين التصرف الصحيح الذي يأتي في وقته ومكانه المناسبين والتعديلات التي قد يقوم بها المترجم جزافاً، والتي لا تنطلق من سبب منطقي يُذكر، مؤكدة أن التصرف الجيد بالنص لا يقوم بعزل الطفل عن عالم القصة وفحواها الثقافي، ولا يمنعه من التمتع بروح النص الأجنبي، بل إن الترجمة الجيدة بتصرف تبلور النص، وتقدمه جاهزاً باللغة العربية التي تحاكي عالم الطفل العربي.

 

الترجمة للأطفال والدبلجة

رداً على ماهية العلاقة بين الترجمة للأطفال والدبلجة للأطفال تؤكد كاتبة وجيه كاتبة المدرّسة في المعهد العالي للترجمة والترجمة الفورية- قسم الترجمة السمعبصرية، أن العلاقة بينهما وطيدة لأن كلتيهما تستهدف الطفلَ كمشاهد أو كقارئ، لذلك يجب على المترجمِ أن يراعيَ قدراتِ الطّفلِ اللُّغويةَ وقدراتِهِ على الفهمِ والتّحليلِ والاستيعابِ في أثناءِ التَّرجمةِ والدبلجة على حد سواء كالأفلام المدبلجة الموجهة للطفل (أدب الطفل المرئي) الذي هو جزء لا يتجزأ من أدب الطفل، وكثيرة هي الأفلامُ المأخوذةُ أو المقتبسةُ عن الأدبِ بصفةٍ عامّةٍ وأدبِ الطفل بصفةٍ خاصةٍ، وعلى سبيل المثال سلسلة هاري بوتر للكاتبة جوان رولينغ التي قُدّمت سينمائياً، كما قُدّمَتْ روايةُ “أحدب نوتردام” كفيلمٍ موجّهٍ للأطفالِ حملَ عنوان الرّواية، وأوضحت كاتبة أن التحديات والإشكاليات التي تواجه المترجم في أثناء الترجمة والدبلجة هي ذاتها على صعيد اختيار النص أو اختيار الفيلم الكرتوني، خاصة أن الإنتاج الغزير في العالم الغربي يجعل المترجم حائراً حيالَ الخيارات الكثيرة، إضافة إلى غياب قواميس الكلمات الشائعة في لغة الأطفال، فنجد أنَّ كاتب كُتب الأطفال الغربي لديه قواميس للكلمات الشائعة والمناسبة لكلّ فئة عُمرية، إلا أنَّ هذه القواميس غير موجودة في اللغة العربية بشكل كبيرٍ، والموجود منها قديم ومختصرٌ، والتحدي الأهم في رأي كاتبة هو تطوير كاتب أدب الطفل لقدراته التنافسية مع تطبيقات اللوح الرقمي بما تملكه من إبهار صوتي وموسيقي ورسوم متحركة، مشيرة إلى أن الاستراتيجية المتبعة في الدبلجة تهدفُ إلى المحافظةِ على العناصرِ الثقافية في النص الأصل دونَ تغييرِها أو تكييفها، وهو ما يتناسبُ مع أحدِ أهدافِ أدبِ الأطفال المتمثّل في التّعريف بثقافاتٍ أخرى مغايرةٍ لثقافةِ الطفل، إذ إنَّ تعويضَ وإبدالَ مجموع العناصرِ الثقافيةِ الواردةِ في النص الأصل بعناصرَ من الثقافةِ الهدف يؤدي إلى الإخلال بأهدافِ أدبِ الأطفالِ القائمة على تعلُّم الجديد والتعرفِ على ثقافاتٍ غيرِ ثقافةِ الطفل، لذلك تميزتْ مسلسلاتُ الكرتون الأولى بأمانةِ الترجمة القصوى، فاحتفظت بأسماء الممثلين ولحن أغنيةِ الشارة الأصلية، فنلاحظ مسلسلاتٍ كسندباد وسالي وغراندايزر… إلخ، فكلها أبقت أسماءَها الأجنبية، مع تأكيدها أن الهدف الأسمى للترجمة عامة وللترجمة للأطفال خاصة تبادل المعارف والتواصل بين الثقافات والشعوب، والكتب المترجمة إحدى الأعمدة في ثقافة الطفل لأجل التفاعل والتواصل وتقريب البعيد ومدّ الجسور وتحقيق التفاعل الفكري وإشباع الدوافع والحاجات الانفعالية من حب الاستطلاع وغرس القيم الأخلاقية والتّربوية بشرط أن يتم انتقاء ما هو جيد في هذا الأدب وفرزه للأطفال.