الإنهيار الثقافي والاجتماعي يعصف بأمريكا
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
إن إلقاء نظرة واسعة على التغييرات الجذرية التي حدثت منذ مطلع الألفية، تظهر التدهور السريع للثقافة والمجتمع الأمريكي. ولعل الاعتراف بأن الولايات المتحدة هي الآن في أدنى مستوى لها منذ تأسيس الأمة، هو أقل ما يقال. وعلى الرغم من ذلك، ترفض الإدارة الأمريكية التفكير مرة أخرى في ما كان يجب القيام به للتخفيف من المسار نحو تدمير الذات، وما مُكنت من القيام به، والمشاركة فيه بشكل مباشر وسيء.
تقدمت صحيفة “نيويورك تايمز”، إلى جانب العديد من الوسائل الإعلامية الرئيسية الأخرى، أخيراً لتحدي اتهام الإدارة الأمريكية لـ جوليان أسانج بتهمة الخيانة، وكانت وسائل الإعلام تلك هي ذاتها التي اعتمدت على مواد “ويكيليكس”، وتحقيقاتها، وكانت في الوقت ذاته تقدم دعماً صريحاً للتهم الجنائية للحكومة. فما كشف عنه أسانج لم يكن دقيقاً فحسب، بل كانت أنشطة أسانج تعتبر من منظور أخلاقي أسمى بطولية أيضاً. لكن بالنسبة للأقوياء، الذين ينخرطون في أعمال إجرامية مستنكرة ومدعاة للشجب، يجب معاقبة أسانج.
يظهر تواطؤ وسائل الإعلام وتورطها في إصدار إدانة الحكومة لـ أسانج، و كل مبلّغ آخر يكشف عن التستر الحكومي على الجرائم المرتكبة، جبناً جماعياً. وبناء على ذلك، إن كم من الاكتشافات الأخرى يمكن أن تكون موجودة إذا لم تخشى وسائل الإعلام أشخاصاً مثل أسانج الذين يقدمون معلومات جديدة حول أخطاء الحكومة والشركات والفساد!.
وبالعودة إلى الوراء للنظر في التدهور التدريجي للتعليم الأمريكي، وكيف وصلت أمريكا إلى مرحلة يمكن أن يكون فيها تدريس الرياضيات أو اللغة الإنكليزية عنصرياً؟.
يُجبر المعلمون عن غير قصد على الإذعان لمطالب نقاباتهم بتبني النظرية العرقية النقدية، في تشويه للمبادئ النفسية الأساسية المصممة لاكتشاف الميول العنصرية الموجودة في كل جانب من جوانب التفاعل البشري. إن التهديد الفظيع للنظرية العرقية النقدية لأي هدف محتمل للوصول إلى حضارة موحدة هو هجومها على أساس فكرة المجتمع الحر. تتمثل مهمة إيديولوجيا الصحوة في تفكيك مجتمع حر، حيث لا يوجد سوى أفراد جماعيين، ولم يعد هناك أفراد متميزون قادرون على ممارسة الإرادة الحرة. في الواقع، على غرار المتشدقين والملحدين الجدد مثل سام هاريس، ودانيال دينيت، ينكر دعاة الاستيقاظ أو الصحوة وجود الإرادة الحرة، حيث يتظاهر أتباعه بأنهم أبطال ما بعد الحداثة للحقوق المدنية، ويمحوون بدلاً من ذلك كل ما اكتسبه حماة التاريخ من حقوق الإنسان، بحيث كل عبثية يمكن تخيلها للإبداع البشري تُلقى ببساطة في كومة من الهراء اللاعقلاني، الآلام العاطفية المفرطة، ليتم تدوينها في قوانين، وأولئك الذين يقاومون يجب منعهم ومراقبتهم ومعاقبتهم.
لقد خلقت حماقة النخب السياسية الأمريكية وحلفائها الأوروبيين في أعقاب انقلاب أوباما – كلينتون 2014 في كييف الآن حرباً ساخنة مع روسيا بالوكالة، حرباً لا يستطيع الناتو الفوز بها. وهنا تظهر مرة أخرى السخرية الصريحة لوسائل الإعلام التي تقوم بتدوير أكاذيب دعائية سخيفة، ومعلومات مضللة تتحدى أي واقع قائم على الحقائق. فكل ما قيل، على سبيل المثال، عن فعالية أقنعة الوجه، وسياسات الإغلاق واللقاحات، وكذلك انتصارات زيلينسكي الخيالية ضد الجيش الروسي المتفوق بشكل ساحق، كانت كلها مجرد خيال.
تشير الروايات الرسمية المتعلقة بكل من الوباء، والحرب الباردة الجديدة ضد روسيا إلى أن نوعاً من العقلية القائمة على اليقظة قد تغلغلت في كل الفروع التنفيذية والتشريعية للحكم، ويحتاج هذا التشويه الشنيع للعقل إلى إعادة كتابة التاريخ من أجل إخفاء غباءه الكامن.
لقد ظهر هذا الاتجاه لمراجعة التاريخ لاستيعاب المغامرات العسكرية الأمريكية اللا إنسانية لتغيير النظام بشكل كامل خلال مقابلة جون ستيوارت الأخيرة مع هيلاري كلينتون، وكوندوليزا رايس، حيث قام الوزيران السابقان من المحافظين الجدد في وزارة الخارجية بتزوير الحقائق الموثقة، والتشويش عليها لتبرير حملتهم العسكرية لإحداث تغييرات في النظام في دول ذات سيادة، على الرغم من الانتقادات التي قد يوجهها المرء إلى تلك البلدان. والجمهور الأمريكي، بغض النظر عن الأكاذيب التي تنشرها وسائل الإعلام، يمكنه ببساطة القيام ببعض القراءة اللا منهجية بعد إيقاف تشغيل “سي إن إن” ، و” إم إس إن بي سي”، والشبكات الإخبارية ليدرك اختراق شبكات الأخبار التي تعمل على تأصيل المشروع الإمبريالي الأمريكي.
إلا أن الأمر الغريب، لأسباب يصعب فهمها بالكامل، تتحدث الآلية السياسية والصناعية والمؤسسية بصوت واحد، وترفض تحدي السجلات الرسمية المبنية على التطلعات الوهمية للسيطرة الكاملة، فبعد ثلاث سنوات على وباء كوفيد، لم يكن سوى كوادر الأطباء والممرضات والعلماء ممن يمتلكون الشجاعة الذين ابتعدوا عن التنويم المغناطيسي في مصفوفة شركة “بيغ فارما للأدوية ” لتحدث عن الحقيقة على حساب التكلفة الباهظة لسمعتهم ووظائفهم، والتهديد بفقدان تراخيصهم الطبية لملاحظتهم التناقضات والتضارب بين البيانات العلمية القائمة على الأدلة، والعلم المختار الذي تم تقديسه من قبل وكالات الصحة الفيدرالية، والمؤسسات الطبية العالمية التي يمولها غيتس، مثل منظمة الصحة العالمية.
أدت سياسات إغلاق كوفيد خلال فترة الوباء إلى إغلاق آلاف الشركات الصغيرة، وإعادة هيكلة كاملة للعلاقة بين صاحب العمل والموظف، وخلال مرحلة البطالة المأساوية، قامت المدن والمناطق الغربية بشكل أساسي بإضفاء الشرعية على النهب العشوائي للمتاجر. كيف يمكن اعتبار أي مجتمع عاقلاً عندما تدعم السلطات اللصوص على حقوق أصحاب المتاجر الذين يقعون ضحايا؟.
إن غالبية الأمريكيين، من اليسار واليمين، يعانون من الانحياز المزمن والصلاح الذاتي الصارم بشأن تفوق القيم والمثل الأمريكية، هذا العمى الثقافي الخبيث يظهر بشكل خاص في قاعات مجالس الإدارة الحكومية والشركات. وكانت النتيجة أن الأمريكيين أظهروا قدرة ملحوظة على تجنب الانتقادات ضد الاتجاهات المتدهورة في الولايات المتحدة التي يشهدها القادة في الدول الأجنبية. على سبيل المثال، على الرغم من الانتقادات المستمرة للولايات المتحدة للحزب الحاكم في الصين، إلا أن الحكومة الصينية حققت معجزة من خلال انتشال ما يقرب من 800 مليون من مواطنيها من الفقر خلال العقود الأربعة الماضية، وفقاً للبنك الدولي. بالنسبة لدولة تفخر بفوزها في السباق الاقتصادي ضد الصين، فمن العار أنها لا تستطيع إخراج 38 مليون مواطن من براثن الفقر، ليتحمل الأمريكيين العاديين ديوناً باهظة مع عدم وجود تخفيف أو أمن في الأفق.
إن فشل التعليم الأمريكي هو وباء مخجل آخر يجتاح عقول الشباب، حيث تشجع الليبرالية المستيقظة الأطفال على التصرف، واتخاذ القرارات دون معرفة أو موافقة الوالدين. ومن أجل حماية المشاعر الهشة للطلاب، تحتاج الكليات إلى أن تصبح ملاذات خالية من الإجهاد للراحة والترفيه مع سهولة الوصول إلى الأدوية المضادة للقلق والاكتئاب، وجحافل من السلوكيين والمستشارين لضمان أن الآلام العقلية للطلاب طبيعية وثمينة.
يبدو أنه لا يوجد أي جهد من قبل القيادة الأمريكية لمعالجة الأسباب الكامنة وراء الانهيار الاجتماعي والثقافي في أمريكا، ولا أي تراجع في السياسة الأمريكية، ولا أي ندم على القرارات السيئة التي تنذر بالسقوط المحلي، إضافة إلى فشل الأمريكيين مراراً وتكراراً في التنظيم بشكل مستقل عن ولاءاتهم السياسية لمحاسبة أي شخص. أين المظاهرات ضد المغامرات العسكرية الأمريكية التي تدمر العديد من الأرواح البريئة في الخارج، أو الاحتجاجات ضد السياسات المحلية التي تساهم في التشرد والفقر والظلم ؟.
تقوم البنية السياسية على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع بتقديم الأكاذيب التي يتم بثها من خلال وسائط دعائية للغاية، كما نشهد يومياً الصور والمقتطفات والتعليقات الصوتية لأمة غارقة في الفجور التي لم يكن “دانتي” ليتخيلها، ومع ذلك إما أن نصفق أو نبقى صامتين. هل يمكن لأي شخص أن يفكر في إنجاز واحد من قبل أي من الحزبين السياسيين لجعل الولايات المتحدة أو العالم مكاناً أكثر مساواة وأماناً للعيش فيه خلال العقود الثلاثة الماضية؟.