صفوح شغالة.. ستظل حاضراً في انتصار حلب
غالية خوجة
هل كان شاعر الأغنية الحلبي صفوح شغالة يحدسُ بأنه يهرب من القوافي التي طاردته أكثر من أربعين عاماً؟ هل كان شاعر كلّ من “عاشت سورية تحيا مصر” التي غناها الفنان هاني شاكر في دمشق، و”سورية بالقلب” و”طبيب جراح” اللتين غنّاهما الفنان جورج وسوف، و”فوق الغيم” التي غنتها الفنانة ميادة بسيليس، و”محسوبك أصلو حلبي” التي غناها الفنان محمد خير جراح، يحدسُ أنه على موعد مع الرحيل عندما كتبَ قبل يومين على صفحته الفيسبوكية: “شيء انكسر.. جوّه قلبي واحترق.. وHصبح رماد، شيء انكسر.. مات القلم فوق الورق.. جف المداد”؟!.
الأغنية منعطف لطريق الحرير
لن تجفّ أوراقك أيها الشاعر، ولا مدادك، وستظلّ آثارك متوارثة كما هي حكاياتك وذكرياتك عن حلب، وجدك “أبو عمر”، وحياتك بين لبنان ودمشق والشهباء التي ولدتَ فيها عام 1956، وعدت إليها لتبني مساراً جديداً من حياتك وكلماتك، فبدأت بعدة مشاريع، منها اكتشاف المواهب، ومنها كتابة الأغاني النابعة من إحساسك وحياة الفقراء والعمال والصغار والكبار وأغلبية المواطنين الذين عانوا وما زالوا يعانون من آثار الحرب. وكانت محطتك الأخيرة (كورال نادي شباب العروبة)، الاحتفالية التي لم يكتب لك الله أن تحضرها: انتصار حلب في ذكراه السادسة، والتي أعلنت عنها قبل يوم من وفاتك.
وستظلّ رغم الرحيل المادي باقياً مع فنك الراقي الذي تجاوز مدينتك حلب ووطنك العربي السوري إلى العالم العربي، فأنت ألّفت كلمات أكثر من 1650 أغنية بالفصحى واللهجة الحلبية، وانتشرت معانيك الوطنية والوجدانية بين عدة أجيال، وحلّقت مع الأصوات والألحان في كافة الاتجاهات والأمكنة، فمن ينسى ما غنته نجوى كرم، وشادي جميل، وحمام خيري، ولطيفة التونسية، وديانا حداد، ووضاح شبلي، ووليد توفيق، وعاصي الحلاني، ووائل كفوري، وفلة الجزائرية، وصفوان عابد، وغيرهم الكثير، ولحّن أغانيه عدد كبير من الملحنين المحليين والعرب، منهم جورج مارديروسيان، وصلاح الشرنوبي، وفاضل نوبلي.
كلمة بحواس لجميع الناس
تميّزت كلمات شاعر الأغنية الحلبية شغالة ببساطتها العميقة، وموسيقيتها الرهيفة، وحواسها ككلمة قريبة من جميع الناس، لأنها مرآة لأعماق جميع الناس، وحياتهم، وعلاقاتهم المختلفة، بدءاً من علاقتهم مع أرضهم وهويتهم ورمزهم ووطنهم، عبوراً بعلاقتهم العاطفية الرومانسية بين حب وتواصل وافتراق وفراق وعتاب وفقد وحضور وغياب وحنين، وصولاً إلى معاناتهم مع الحياة ومن أجل استمرارها، وإضافة إلى حضور الألم حضر الأمل والحلم والتفاؤل والتحدي.
حيوية بين الحياة والتراث
وكم كان مسؤولاً عن كلّ كلمة يقولها باختزال وجرأة وشفافية، وكم كان للحكمة دورها بين كلماته وحياته، ولاسيما ما يطلعنا عليه من يومياته واهتمامه بأحفاده ورياضتهم، وما يتفاعل معه ويدلّ على حيويته الدائمة في المشهد الثقافي والفني، وحيويته مع الذاكرة الحلبية التراثية التي كان يكتب أحداثها باللهجة الحلبية المحكية، فنشعر وكأننا أمام توثيق شفاهي لذاكرة عريقة عاشها مع عائلته والمجتمع الحلبي والمجتمع الإنساني.
ولا بد للشاعر من “مزاج” ما، مولود معه بالفطرة، وكان مزاج شغالة مثل كلمته، ومعاناته التي جعلت منه تجربة حكيمة تعلّم الإنسان معنى النجاح الذي يراه مراحلَ فشل تحكمها الإرادة والتصميم: “علمتني تجاربي الفاشلة وما أكثرها، أن النجاح لا يأتي بدونها.. فتصميمي حين أفشل يعادل تصميمي بعد النجاح”!
راعي القوافي
لم يكن يعلم “راعي القوافي”، شغالة، أن القوافي تودّعه وهي تزدحم بينه وتطارده حين عبّر بمشهدية كلامية عن حالته: “أربعون سنة وأنا أعدو وراء القوافي، كراعٍ شردَ منه قطيعه، وحين رفعت الراية البيضاء، صرت أهيمُ على وجهي هرباً منها”.
وضمن هذه المشهدية تزدحم كلماته الغنائية لتتناغم مع التعبيرية والرمزية والواقعية في آنٍ معاً، ما يمنح قصيدته سرّها الجمالي إضافة إلى البُعد الموسيقي للجملة الشعرية وإيقاعاتها مع القصيدة كوحدة كلية هارمونية يكملها البعد الثقافي لذات الشاعر شغالة، وهذه الفنيات المتشابكة تظهر في أغلب قصائده المغناة سواء بالفصحى أو اللهجة، لدرجة أننا نسمع صوت الانكسار الواقعي للمرايا مع المؤثرات المحيطة بها في هذه الصورة التعبيرية التي يلمسها الجميع: “شيء انكسر مثل المرايا.. ع الأرض لحظـة سكون”، والسكون هو الخلفية الصامتة لأصوات الانكسار، بينما المرايا هي رمز لما يجول في الذات، وذاكرتها ولحظتها المعاشة، ثم يصف ما حدث بعد الانكسار والشظايا والصوت داخل الصمت: “وتناثرت بين الزوايا”، ليتابع سائلاً الأنا الأخرى التي تظهر بضمير المخاطب “أنت: تظنها ترجع تكون”، لكن بطل القصيدة أو بطلتها، والذي هو ضمير الشاعر، لا ينتظر الإجابة، لأنه يجيب بنوع من المكاشفة عن رمز المرايا وشظاياها: “الخواطر”، وهو يؤكد على صعوبة عودة اللحظة وحالتها إلى ما قبل الانكسار: “مو سهل انها تنكسر.. الخواطر.. مو سهل انها تنجبر”.
لكن، ما سبب الصعوبة في العودة إلى الوراء ولو بأثر رجعي؟ تجيبنا الكلمات عن أهم قيمة انكسرت قبل انكسار المرايا والخواطر واللحظة وهي “الوفاء”: “جاني خبر عنك.. ضاع الوفا منك”.
ثم تظهر علاقة دلالية بين العناصر السابقة و”القلب” بدلالاته المتنوعة وهو يتحوّل إلى ألم وشكوى وحنين وبكاء وغناء وانتشار الخبر، وجميعها اشتبكت مع انكسار المرايا ورموزها: “قلبي اشتكى أنّى.. حن وبكى وغنّى.. وشاع الخبر.. وانتشر”.
والملاحظ أن الراء بموسيقيتها المتناسبة مع أصوات الانكسار الداخلي والخارجي والانتشار تعكس بعداً إيحائياً وهارمونياً مع التحولات الجوانية والزجلية والتعبيرية التي تنطلق من مرحلة إلى مرحلة، ومن حدث إلى حدث، ومن مشهد تصويري إلى مشهد تصويري يعتمد على عدة عوامل فنية، أهمها اللازمة المتكررة “شيء انكسر” كخلفية أساسية ثابتة ومتحركة، صائتة وصامتة، ملوّنة ومضيئة ومعتمة، لتعيد صوت الشظايا في ذاك السكون الذاتي والموضوعي، بين المرايا والخواطر والروح والاحتراق الذي يشدّ الأصوات الدلالية السابقة إلى صوت النار فاللهب فالرماد فالوجدان: “جوّه قلبي واحترق.. واصبح رماد”.