واقع الأمن الطاقوي في سورية من الوفرة إلى الندرة.. نحو ألف ليرة تكلفة إنتاج الكيلو واط خلال النصف الأول من 2022
دمشق – قسيم دحدل
أثّرت الأزمة في سورية على مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد، وكانت هناك خطة غربية ممنهجة لاستهداف أهم القطاعات الحيوية في الاقتصاد السوري، ولاسيما أنّ قطاع الطاقة هو عصب الحياة الاقتصادية في أي دولة، حيث عملت قوات ما تُسمّى “التحالف الدولي” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على استهداف المنشآت النفطية ومعامل الغاز ومحطات توليد الكهرباء عشرات المرات وبشكل ممنهج، وبرز ذلك بشكل خاص خلال العامين 2014 – 2015 حيث دُمّر العديد من الأبنية وخطوط النقل الاستراتيجية المهمّة في القطاع، وزاد من حدّة ذلك فرض العقوبات الاقتصادية الغربية القسرية على سورية عموماً وعلى القطاع الطاقوي بحدّ ذاته، ما أدى إلى زيادة صعوبة الاعتماد على الخارج في العديد من المسائل التي يحتاجها قطاع الطاقة، سواء في مجال إجراء الصيانات وتأمين قطاع الغيار أو تأمين النفط الخام والغاز المسال… وغيرها.
بهذا التوصيف الواقعي استهل الباحث قصي أحمد المحمد حديثه لـ “البعث”، حول البحث الذي قدّمه لمؤتمر الدراسات العليا في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق – المحور الاقتصادي والاجتماعي، والذي تناول فيه “واقع الأمن الطاقوي في سورية وتحدياته الراهنة”، معتبراً أن الأحداث التي مرّت بها سورية، منذ عام 2011، أثرت بشكل كبير على الأمن الطاقوي في البلاد، ما جعل الحكومة غير قادرة على توفير الطاقة اللازمة بكميات كافية ومقبولة لجميع القطاعات الاقتصادية وبكل الأوقات، الأمر الذي تسبّب بحدوث أزمات محلية عدّة وارتفاعات كبيرة في أسعار المشتقات النفطية.
تأثيرات بليغة
وحول تأثير الأزمة في إنتاج البلاد الإجمالي من الطاقة الأولية، أوضح بداية ما يقصد بـ«إنتاج الطاقة الأولية» اقتصادياً: إجمالي إنتاج أي بلد من (فحم الكوك، الفحم البخاري، الليغنيت، الجفت، الصخر الزيتي، النفط الخام، سوائل الغاز الطبيعي، الغاز الطبيعي، الوقود الحيوي والنفايات، الطاقة النووية، الطاقة المائية، الطاقة الحرارية الأرضية، الطاقة الشمسية، طاقة الرياح، والحرارة من المضخات الحرارية التي يتمّ استخراجها من البيئة المحيطة)، مستعرضاً جملة من الإحصائيات والأرقام المهمّة، حيث بلغ إجمالي إنتاج الطاقة الأولية في سورية عام 2000 نحو 32694 ألف طن نفط مكافئ، ثم ارتفع عام 2002 إلى 37064 ألف طن، وخلال الأعوام 2003-2009 أخذ منحنى الإنتاج بالتراجع من 36303 ألف طن نفط مكافئ إلى 24174 ألف طن، علماً أنه خلال الأعوام 2007-2008-2009 كانت فترة الإنتاج مستقرة تقريباً، ثم عاودت كمية الإنتاج بالارتفاع عام 2010 من جديد بزيادة بلغت 3498 ألف طن، لتصبح 27672 ألف طن نفط مكافئ، وذلك نتيجة دخول شركات جديدة عملت في مجال التنقيب عن النفط في سورية ما زاد من حجم الاستثمارات في قطاع النفط.
مع بداية الأزمة، انخفضت كميات إنتاج الطاقة الأولية تدريجياً لتبلغ 7247 ألف طن نفط مكافئ عام 2013، بنسبة تغيّر سلبي بلغت 48%، وذلك نتيجة العقوبات الاقتصادية الغربية التي دفعت أغلبية الشركات الأجنبية التي تعمل في قطاع الطاقة في سورية لإيقاف أعمالها ومغادرة البلاد، وكذلك انتشار التنظيمات الإرهابية المسلحة على مساحات واسعة من سورية، وخاصة المناطق ذات الإنتاجية الأعلى للنفط والغاز والموارد الباطنية الأخرى، سواء في المنطقة الوسطى أو منطقة الجزيرة السورية، واستمرار سيطرة ميليشيات “قوات سورية الديمقراطية- قسد” على آبار النفط، واستمر الانخفاض ليصل إلى 4037 ألف طن عام 2018.
اختلالات ما قبل الأزمة..
أما ما يتعلّق بتأثير الأزمة على إنتاج النفط، فقد لفت المحمد إلى أنه وفي السنوات العشر الأولى من الألفية الجديدة، شهدت سورية انفتاحاً فكرياً عالياً وحراكاً اجتماعياً بعد توجّه الحكومة نحو تطبيق فكرة اقتصاد السوق الاجتماعي، لكن ذلك لم يكن له نتائج تنموية حقيقية نتيجة تراجع مكانة التخطيط، وبروز اختلالات التنمية في المناطق، وانخفاض معدلات النمو والاستثمار والإنتاجية، وتفاقم مشكلات البطالة والخلل في التوازنات القطاعية للاقتصاد الوطني، فكان اعتماد الاقتصاد السوري، قبل 2011، على إنتاج النفط أساسياً، إضافة إلى النشاطات الزراعية والصناعية الأخرى، وصُنّفت سورية حينها من الدول المكتفية ذاتياً في مجال الطاقة، إذ قدّرت إنتاجية آبار النفط السورية بنحو 385 ألف برميل يومياً قبل عام 2011، وذلك أكثر من التوقعات التي وضعتها الحكومة في عام 2005، وكانت تتوقع حينها إنتاج 310 آلاف برميل يومياً، وكان يُستهلك من إنتاج عام 2011 نحو 245 ألف برميل ضمن القطاعات الكهرباء والصناعة والنفط، في حين يصدّر الباقي خاماً للخارج، ما يحقق اكتفاءً ذاتياً لسورية وعائدات بالقطع الأجنبي.
انخفض الإنتاج عام 2012 إلى 171 ألف برميل يومياً، ثم انخفض إلى 59 ألف برميل عام 2013، وإلى 33 ألف برميل عام 2014، وذلك لتوقف إنتاج الشركات الأجنبية، وخروج العديد من الآبار عن الخدمة وتدمير العديد من المنشآت النفطية من قبل قوات “التحالف الدولي” وخروج الآبار التي بقيت عاملة عن سيطرة الحكومة السورية لتصبح تحت سيطرة التنظيمات المسلحة. وبحسب بيانات موقع “بريتش بتروليوم” للنفط – والكلام للباحث – بلغ إنتاج النفط 27 ألف برميل في عام 2015، و25 ألف برميل في عام 2016، و25 ألف برميل عام 2017 و24 ألف برميل في عام 2018، لكن لم تكن جميع الكميات المنتجة تصل للمصافي الحكومية.
وفي عام 2021، بلغ إنتاج النفط في سورية نحو 31.4 مليون برميل، بمتوسط إنتاج 85.9 ألف برميل يومياً، يصل منها 16 ألف برميل يومياً إلى المصافي، و69.9 ألف برميل سرقت من آبار المنطقة الشرقية. وخلال النصف الأول من عام 2022 بلغ إنتاج النفط في سورية، نحو 14.5 مليون برميل بمتوسط إنتاج 80.3 ألف برميل يومياً، وصل منها 14.2 ألف برميل يومياً للمصافي الحكومية، وما يصل إلى 66 ألف برميل يتمّ سرقتها يومياً من حقول المنطقة الشرقية.
بخلاف المأمول غازياً
وحول إنتاج الغاز الذي كنّا نعول عليه، بيّن الباحث أن منحنى إنتاج الغاز في سورية كان سلبياً، فقد تراجع إجمالي الإنتاج من 24 مليون متر مكعب يومياً، عام 2010، إلى 11 مليون متر مكعب عام 2016، ثم عاد ليرتفع خلال العامين 2017 و2018 ليسجل لكلّ منهما على التوالي 14 و15 مليون متر مكعب يومياً. وفي عام 2020 و2021، عادت كميات إنتاج الغاز إلى الانخفاض من جديد لتسجل عام 2021 إنتاج 12.5 مليون متر مكعب يومياً. ثم انخفض الإنتاج في النصف الأول من عام 2022 إلى 9 ملايين متر مكعب يومياً نتيجة توقف معمل الجبسة في محافظة الحسكة عن العمل، وكذلك انخفاض مردودية الضواغط في معامل الغاز، إضافة إلى أنّ الشركات الروسية التي تعمل في الاستكشاف عن آبار الغاز في المنطقة الوسطى، لم تعطِ الإنتاج المأمول منها كما هو متوقع من قبل الحكومة، لهذا عملت وزارة النفط والثروة المعدنية لتعويض النقص الحاصل لتعويض انخفاض ضغوط الآبار بتركيب 4 ضواغط ضمن معمل غاز المنطقة الوسطى لمساعدة الآبار على زيادة الإنتاجية، ورفع الضغط على الشبكة للمحطات البعيدة كـ “محطة دير علي”، وهذا المشروع حسّن إنتاج الغاز بكمية 400-450 ألف متر مكعب يومياً.
تأثر كهربائي كبير
انخفضت كميات إنتاج الكهرباء خلال الفترة 2010 – 2021 بشكل كبير، فكان إنتاج البلاد عام 2011 نحو 49 مليار كيلو واط ساعي، ثم انخفض إلى 24 مليار كيلو واط ساعي عام 2021، علماً أنّ أدنى قيمة كانت عام 2016 حيث وصلت حينها إنتاجية مجموعات التوليد إلى نحو 17.60 مليار كيلو واط ساعي بفعل استمرار الأزمة وزيادة الاعتداءات الإرهابية على محطات التوليد وخطوط النقل ذات التوتر العالي ومحطات التحويل ومراكز التحويل… وغيرها.
وبيّن الباحث أنّ وزارة الكهرباء، تحتاج حالياً لتشغيل جميع مجموعات التوليد الجاهزة للعمل لديها بشكل يومي، لنحو 6 آلاف طن من الفيول لكن لا يصلها منها سوى 3 آلاف فقط، ولنحو 17 مليون متر مكعب من الغاز الطبيعي ولا يصلها سوى 50% من المطلوب، علماً أن سبب الانخفاض طبعاً هو العقوبات الاقتصادية وبقاء آبار النفط خارج السيطرة.
ولحظ الباحث أنّ وزارة الكهرباء خلال الأزمة ركزت على إنتاج الطاقة الكهربائية من مجموعات التوليد الغازية أكثر من غيرها، وذلك لعدة اعتبارات، أهمها أنّ عملية إصلاح وإعادة تأهيل هذه المجموعات أقل تكلفة من مجموعات التوليد البخارية، وكذلك عملية إقلاع مجموعات التوليد التي تعمل على الغاز أسرع بكثير من مجموعات التوليد التي تعمل على الفيول، والعامل الأهم هو توفر الغاز بالتناسب مع الحاجات المطلوبة أكثر من الفيول، حتى أنّ مردودية مجموعات توليد الغاز أعلى من مردودية مجموعات توليد الفيول وهي توفر طاقة بحدود 35% تقريباً.
خسائر مركبة
وبحسب الباحث، وفي أحدث إحصائية للخسائر، بلغت القيمة التقديرية للأضرار المباشرة التي لحقت بقطاع الكهرباء بمختلف أجزاء المنظومة الكهربائية، لنهاية عام 2020، نحو 204.0 مليارات ليرة، أمّا الخسائر غير المباشرة، فقد تسبب عدم تزويد القطاعات الصناعية والخدمية بالكهرباء بخسائر مالية على الاقتصاد الوطني، حيث قُدّر (فوات المنفعة) الناجمة عن قطع الكهرباء بسبب العمليات التخريبية لنهاية عام 2020 بنحو 408.1 مليار ليرة، محسوبة على أساس قيمة الـ(ك.و.س) غير المُخدم تعادل (50 ل.س/ ك. و. س) على أساس سعر الصرف 50 ل. س/ للدولار.
أما بالنسبة للخسائر التي تعرّض لها قطاع النفط خلال الفترة (2011 حتى منتصف 2022)، فقد بلغت نحو 105 مليارات دولار وهو رقم كبير يشكل تقريباً قرابة 20% من الخسائر الكلية التي تعرّض لها الاقتصاد السوري خلال الأزمة خلال الأعوام 2011-2021، والتي تصل تقريباً إلى نحو 530 مليار دولار وفقاً لتقديرات نقابة عمال المصارف في بداية عام 2021.
خلاصات.. وتحديات
واقع طاقوي كان من الطبيعي أن يؤدي إلى حدوث العديد من الأزمات المحلية نتيجة زيادة الطلب على المشتقات النفطية والتي غالباً ما كانت ترافقها ارتفاعات في الأسعار للمستهلكين.
وبالنسبة للتحديات التي تواجه القطاع فهي برأي الباحث كثيرة، أبرزها نقص العمالة وارتفاع تكاليف التكرير في مصافي النفط نتيجة قدمها وارتفاع تكاليف الصيانات الدورية اللازمة، وصعوبة تأمين النفط الخام من الخارج نتيجة العقوبات وقلة القطع الأجنبي اللازم الذي انخفض بسبب تراجع الصادرات بشكل كبير خلال الأزمة، إضافة إلى مسألة الأسعار، إذ لا تزال شركة محروقات تبيع نسبة كبيرة من إنتاجها بأسعار مدعومة ما شكل عجزاً كبيراً للقطاع لعدم قدرته على استرداد تكاليف إنتاجه.
كما تقف أمام قطاع الكهرباء تحديات كبيرة تتعلق بتكاليف إنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء، وتوفير القطع الأجنبي لتأمين مستلزمات الشبكات الكهربائية من مراكز تحويل ومحطات تحويل ومحولات وأمراس وأعمدة وعدادات.. وغيرها، إضافة إلى ذلك، وجود فاقد كبير في الشبكة الكهربائية السورية يقارب 20% من إجمالي الإنتاج، وارتفاع تكاليف إنتاج الكيلو واط خلال الأشهر القليلة الماضية ليلامس 1000 ليرة سورية على خلفية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
أما بخصوص التوصيات فهي عدّة، أبرزها ضرورة التوسّع في مجالات الاستكشافات البرية والبحرية، ودعم الاستثمارات في الطاقة البديلة مع الاستثمار الأمثل للموارد الحالية بكفاءة وفعالية عالية، إلى جانب تخفيض الرسوم الجمركية على مستوردات مستلزمات الطاقات المساعدة أو البديلة، ما يسهم في توفير مستلزمات ذات جودة عالية وبسعر مقبول يشكل دافعاً للتوسع في تركيبها.