لحظات وجد عابرة
سلوى عباس
يوم قصد إحدى المؤسّسات باحثاً عن عمل، التقاها وهي ترتب بعض الأوراق وتستعد لمغادرة المكان حيث انتهاء دوام الوظيفة، وعاد في اليوم الثاني ليستكمل أوراقه فتقصّد أن يسألها عن الأوراق المطلوبة، فردّت عليه – دون أن تنتبه أن سؤاله كان مفتعلاً وأنه حصل على ما يريد من أوراق – واستمر على حاله هذا إلى أن جاء الردّ على طلبه بعدم الموافقة، فذهب يجرّ وراءه خيبته ويتمتم بكلمات غير مفهومة: “لا أستغرب ما يحصل معي في هذا السجن الطليق”. ومع ذلك جاء في اليوم التالي واقترب منها مخاطباً “أريد أن أتحدث إليك بموضوع خاص”، فاستغربت طلبه واعتذرت منه، لكنه ألحّ عليها بالطلب، وأمام رفضها المتواصل شعر بخساراته التي أرهقته فقرّر العودة إلى قريته وترك لها رسالة حدثها فيها عن الخمس عشرة سنة التي قدمها ضريبة لتناقضات أربكت روحه، ثم خرج إلى الشارع يسير بخطى متعثرة، وكأنه أول مرة يدخل حارات هذه المدينة التي أسرته كما أسرت الكثير من القادمين إليها، وكيف قضى أياماً عديدة وهو فاقد بوصلة اتجاهاته، تقضّ الحيرة تفكيره، وتساؤلات كثيرة تلحّ عليه كيف سيرتب حياته؟ أين سيذهب؟ وكيف سيعيش؟ هل يذهب إلى ضيعته التي نسيته كما نسيه أهلها ويقضي باقي غربته فيها؟ أم يبقى أسير هذه المدينة التي قضى فيها عمراً طويلاً؟ ورغم كل شيء ما زال محتفظاً بدهشته الأولى عندما زارها لأول مرة، ثم خاطبها: لا أدري ما الذي جعلني أبدو كطفل أمامك، فعيناك المتيقظتان استطاعتا دون لأْيٍ أن تجرداني من كل أسلحتي، وأن تبعثرا كما حبات الرمل دفاعاتي الراسخات.
نظرت في ساعتي، كان عقرباها يعلكان الدقائق ويمضغان فرح قلبي النابت تواً، بينما امتدت أصابع لا مرئية تزيح محياك عن أفق عينيّ، ثم تدفعني بقوة إلى هوة ما أزال أغرق في رمالها.. مهلاً صديقتي! فلديّ كل الأسبابِ لأصبحَ عاشقاً، فبغيرك تكون أصابعي ذابلة، وجدول نجواي شحيحاً، وكل الأرض بلا طعم، وأعرف أن لا وقت لنا، والعمر يمضي ولا نار لعظامنا الباردة ولا حكايا، ولا فيئاً لروحي غير هديل يمامك.. لا شيءَ يشدّني إلى ماضيَّ، وإلى ما تبقى من وقت إلا أنت، لا شيء أخسره عندما تجيئين غير الرماد والأوقات الباهتة ووحشتي. حينَ تؤوبين إلى غياهبي يسقط مطرٌ دافئ، ترتعش أشجاري القانطات.. وقتذاك أتذكر جيداً أنني انبعثت من رمل أحزانك، ومن فرحك الخفيّ. وستكون الحياة أحلى، وأكون مثل صخر قُدَّ من حنانٍ.. فيا امرأة أخرجها دمي من عناده إلى فسحة الزمانِ، ماذا ستحملينَ للعصافيرِ الراحلة بعيداً عن قنوط عينيك الحزينتين، أيُّ الأقواسِ ستختارين لسهامك الذابلة وروحك لا تزال تغلق نوافذها أمام الغيوم، فأنا انتظرت ملء قامتي أن يقرّب الله شفتيه النديتين من رمادي الأزلي، لعلّ الخضرة تَنبت في متاهاتنا.
في مفارق العمر، وفي بوادي الانتظار، قولي شيئاً.. لماذا كل هذا الصمت وهذا النزيف.. فبالأمس، وياللأسف، ظننتُ أنّ الأرض ستبوح بخلجاتها لي، وسيمنحني شجر الطريق ودموع عينيه.. ظننت – وياللغرابة – أنَّ السابلة العابرين ربما خلعوا عليّ شيئاً من أحلامهم، وأنْ.. وأنْ.. وأنك ربما..
هذا الكلام الذي يعود إلى عشرات السنين كاتبه اليوم من أشد الإعلاميين المروجين للخراب والدمار في بلاده.. يبدو أنه الآن جاء الظرف المناسب ليحاسبه على سنوات عمره الذي أهدرها برعونته وعدم إدراكه لذاته وظروفه، فإنسان كهذا لايعرف عن الحب إلا الكلام المنمق الذي يختبئ خلفه هو وكثيرون مثله لتحقيق رغباتهم الرخيصة، فأين هؤلاء من الحب وأين هم منه؟!