ضوء أمريكي أخضر لزيارة ماكرون
ريا خوري
كانت وما تزال الولايات المتحدة الأمريكية تعمل لتحقيق مصالحها حتى لو تخلّت عن حلفائها، فقد تخلّت عن معظم حلفائها في أفغانستان والعراق وعدد كبير من دول العالم، وها هي اليوم تزجّ أوروبا في أتون حرب طاحنة في أوكرانيا.
لقد أدرك الأوروبيون حجم الخديعة التي أوقعتهم فيها الولايات المتحدة، وأدركوا أن نتائج التوتر في أوكرانيا والخلافات القائمة بين الولايات المتحدة والصين ستكون على حسابهم وحساب مصالحهم، وأن الأوروبيين سيسدّدون قيمة الفاتورة الكبيرة جداً لهذا النزاع.
في هذا السياق، تحرّكت الدبلوماسية الفرنسية تجاه الولايات المتحدة بشكل مكثف، وتوّجت بزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، أول كانون الأول الحالي. وكانت تلك الزيارة استثنائية بكل المقاييس، فقد حمل الرئيس ماكرون أجندة للمناقشة تضمنت تفاصيل كلّ الملفات المشتركة بين فرنسا وأمريكا، ابتداءً من الأمن الاستراتيجي إلى التجارة الإقليمية والعالمية، إلى الطاقة وأهمها الغاز، إلى الموضوعات الإقليمية الساخنة واستحقاقاتها، حيث تتخوف فرنسا بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام، من أن تصبح القارة الأوروبية بكاملها ضحية للحرب الدائرة في أوكرانيا، وأداة بيد الولايات المتحدة، كما تشعر بالخوف من أن تكون التسويات بكل تفاصيلها على حساب القارة الأوروبية.
المتابع لمجريات السياسة العالمية يدرك أن هناك اتفاقاً صريحاً على التحاور مع الرئيس بوتين لإيجاد حلّ للأزمة، لذا فقد جرى حديث الرئيس الفرنسي ماكرون عن المفاوضات مع روسيا بشكل صريح وواضح، وعن فترة ما بعد حرب أوكرانيا، والحاجة الماسّة إلى سلام دائم وشامل في شرق القارة الأوروبية، وهو قرار لم يأت من فراغ بل من حجم الأزمة التي باتت تعيشها القادرة الأوروبية العجوز، والتي يمكن أن تتصاعد أكثر من ذي قبل مع هطل الثلوج وتقدّم فصل الشتاء القارس.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لم يقطع الصلات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكان قد أرسل من العاصمة الأمريكية واشنطن عدّة رسائل واضحة وصريحة عن الحاجة إلى مفاوضات سلام بين روسيا والغرب. وفي هذا التصريح أكثر من دلالة، فمن حيث المكان، أي من العاصمة الأمريكية واشنطن، فإن الرئيس الفرنسي ماكرون يثبت أنه تلقى ضوءاً أخضر من الرئيس الأمريكي جو بايدن لإرسال رسالة إرضاء للرئيس بوتين، ومن حيث الزمان، فإن أوروبا تشهد أزمة حادّة وخانقة باتت تهدّد بانفجارات اجتماعية في معظم دول أوروبا الغربية.
أيضاً، كان من أهم القضايا التي بحثها الرئيس الفرنسي مع نظيره الأمريكي ضرورة إعادة النظر بكلفة الغاز والنفط الأمريكي الباهظ الثمن، قياساً بسعر الغاز الذي تبيعه روسيا، لتتمكن دول الاتحاد الأوروبي من الاستدارة بالكامل نحو الغرب، وفرض سقف الأسعار على النفط والغاز الروسي، والذي اتفقت دول الاتحاد الأوروبي أن يكون بحدود ستين دولاراً للبرميل الواحد. وهذا المطلب يساعد نوعاً ما في الحدّ من اعتراضات الشعوب الأوروبية التي بدأت تتنامى في أوروبا بشكلٍ كبير، وبعض تلك الشعوب بدأت تطالب بإعادة مدّ الجسور مع جمهورية روسيا الاتحادية للهروب من الابتزاز الأمريكي، وللحصول على طاقة رخيصة تؤمّن الحصول على التدفئة والكهرباء اللازمتين للحياة بكلفة أقل مما هي عليه الحال اليوم. ومن الواضح أن الرئيس الفرنسي ذهب إلى الولايات المتحدة لتبديد مثل هذه الأجواء المشحونة، ولتوضيح المقاربات التي تحدثت عن تآمر دولي لتقويض وتهميش نفوذ القارة الأوروبية ودورها الفاعل في العالم.
ولكن ماكرون غمز من قناة المستشار الألماني أولاف شولتس في زيارته إلى الصين، مؤكداً أنَّ التحالف مع الولايات المتحدة أهم من أي شيء آخر. وفي هذه الإشارة ردّ صريح وواضح على التسريبات التي تتحدث عن نوايا مبيتة لدى بعض الدول الأوروبية للمناورة، والعمل على ألا تكون دول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ خاص، وأوروبا بشكلٍ عام، مكاناً لتصفية حسابات تجارية وعسكرية وأمنية بين الولايات المتحدة من جهة، وبين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية من جهة ثانية.
الجدير بالذكر أنَّ هناك العديد من التقارير والتسريبات الخاصة التي تفيد بأن بعض الدول الأوروبية كانت قد اشترت الغاز الروسي من شركات صينية وهندية. وهذه الدول استوردت فائضاً عن حاجتها من الغاز والنفط من روسيا بأسعار تفاضلية، ووصلت الطاقة إلى أوروبا بأقل كلفة من الغاز الأمريكي.