الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

قصص الأحلام الصغيرة..!

حسن حميد

سرّتني هذه القصص المترجمة من اللغة الانكليزية إلى اللغة العربية، والتي جاءت تحت عنوان (الأزرق اللازوردي)، وهي من ترجمة الدكتور نايف الياسين، ونشر دار التكوين بدمشق 2018، وذلك لأنها ترجمة لا تتقفّى أساليب المترجمين الذين اعتادوا الذهاب نحو الأسماء المشهورة في الآداب الأجنبية، لترجمة بعض ما كتبوه حتى لو كان قديماً اخترمته السنون والأيام، فهذه الترجمة مهمومة بالنوعية والجدة، وتريد المضايفة لا المراكمة، والتعريف بأسماء أدبية أجنبية جديدة لنرى أين وصلت حلقات الإبداع الأجنبي، وما هي الموضوعات التي انهمّت وشغفت بها، وأيّ التقنيات زلّت، وأيّها اعتمدت.

في هذا الكتاب تسع قصص قصيرة مختلفة، وجديدة، وسارّة في كلّ شيء، لا بل هي مميزة في تقنياتها، واختياراتها لزوايا الالتقاط والرؤيا، اثنان فقط من الكتّاب القصصين التسعة معروفان هما: غراهام غرين (1904-1991) وكازو إيشيغيرو (1954-…)، ليس في المشهد الأدبي العربي، وإنما في المشاهد الثقافية العالمية.

أمّا الكتّاب السبعة الآخرون، فهم من الأدباء الذين ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية، فعرفوا أحداثها من الرواة، ومن الكتب، وكلّهم كتّاب إنكليز، كتبوا عن المجتمع الإنكليزي، وما أصاب عاداته وتقاليده من تغيّرات وسمته بطابع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما ساقته من أفكار وتيارات ومذاهب أدبية وفكرية حاولت تفسير شهوة الغرب إلى الحرب بين فترة وأخرى، وأسباب انبعاثها، سواء أكانت رحاها تدور فوق الجغرافية الغربية أم خارجها!.

وكي لا أفسد جماليات القصص بقصّ أحداثها، أشير إلى أهمية هذه الترجمة التي تحاول سدّ فجوات الترجمة سواء أكانت فجوات إبداعية، أو فجوات زمنية في آن، فنحن لا نعرف الكثير عن المشاهد الإبداعية الغربية، وغير الغربية، بسبب عثرات الترجمة التي لم يتمّ تجاوزها بعد، وأسبابها كثيرة، وتصير مع مرور الأيام كثيرة جداً، ولعلّ في طالعها غياب التخطيط، والتنظيم، والمعرفة، وإن حضرت هذه الموجبات الثلاثة، تحول الإمكانات المادية دون تنفيذ أعمال الترجمة، والأهم هنا هو غياب العقل الجماعي والتنسيق ما بين جهات الترجمة في البلاد العربية لمعرفة ماذا تُرجم، وماذا لم يُترجم!.

وأيّاً كانت الحال، فإنّ قراءة هذه القصص القصيرة الجديدة، تشير بوضوح إلى أنّ فن القصة القصيرة لم يتوارَ بعد في المشاهد الأوروبية بسبب سطوة حضور الرواية، وأنّ القصة القصيرة ما زالت تعتمد الذكاء الفطري لتكون مميزة، وما زالت بارعة في تخيّر أشكال جديدة لتقديم ما تريد قوله.

كتّاب هذه القصص، كلّهم متعلّمون، وخريجو جامعات لها مكانتها، وجلّهم يعرف ما نعنيه بـ(التراسل ما بين الآداب والفنون)، وجلّهم على ثقافة واسعة، لهذا فإنّ هذه القصص تقدّم جمالاً أدبياً يودّ أن يقول، وبوضوح، إنّ فن القصة القصيرة منجم جمالي لا تنفد أنواره إن ساهرته المواهب الكبيرة، فتبدي ما فيه من غنى عميم، وسحر حلال!.

وقد أسهمت المقدرة الجلية للدكتور نايف الياسين على الترجمة، والإحاطة بثقافة النصوص، وخصوصية بيئاتها، ورؤى كتّابها، والسّمات التي صبغت تجاربهم، في جعل هذه القصص مأنوسة، ووديعة، وسلسة في أسلوبها، وقريبة من الذات التي تتوق إلى معرفة حال المجتمع الأجنبي من دون وعورة، أو غموض، أو أوهام مسبقة!.

وميزة هذه الترجمة الأهم هي أنها تنسيك أن هذه القصص مترجمة، بسبب امتلاك د. نايف الياسين للنص بلغته الأصل، وامتلاكه له باللغة العربية أيضاً، والميزة الأولى لهذه القصص، ومن الناحية الفنية، أنها اعتمدت التفاصيل كيما تؤثث الموضوعات التي عالجتها، وأنها نفرت من القضايا الكبرى، أو أنها حيّدتها، فموضوعات مثل السفر، والغربة في المكان، والهجرة، والعلاقات الشخصية، والأحلام الصغيرة.. هي التي تشيع في هذه القصص، وهي التي تجعلنا نقف أمام مرآة كبيرة لنعرف من خلال ترسيماتها حال المجتمع الغربي الذي أمعن أفراده في نشدان أمرين اثنين هما: الخلاص الفردي، وافتكاك النفس من كلّ ما يشدّها إلى رباط، ثم إنها قصص أعادت الاعتبار إلى تفاصيل صغيرة كادت التكنولوجيا، والقوة العبوس، أن تدوسها وتقصيها.. مع أنها هي ماء القلب.

Hasanhamid55@yahoo.com