الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أزمنة

عبد الكريم النّاعم 

* في زمن مضى، كان كلّ مَن يحتاج إلى إخراج قيد نفوس أن يذهب لأمانة السجّل المدني، وكانت هذه الأمانة تغصّ بالمراجعين لاسيّما فترة افتتاح المدارس، ولجأ البعض لتخطّي الدور، لوضع طابع زيادة بقيمة خمسة وعشرين قرشاً، أو وضع ليرة بين الطوابع، وكان الموظف المكلّف يسهّل لمَن يدفع، وبعد أن ينتهي دوام الوظيفة، يستريح في بيته، وبعدها يذهب لأحد مقاهي المدينة، فيمرّ بعشرة مقاهٍ قبل أن يصل إلى مقهاه الذي يرتاده، وأثناء مروره يشير إليه الناس ويقولون: “العمى، طقّ شرش الحياء، يرتشي ولا يخجل من المشي بين الناس”.

كان راتب الوظيفة يستر صاحبه، وربّما استطاع التقتير فيوفّر بعض الليرات، وكانت ثقافة النّزاهة هي السّائدة.

كان إذا مرّ مثقّف، معروف باجتهاده لتحصيل الثقافة، بثلّة من الذين كنّا نسمّيهم رجعيين، وهو معروف بتقدّميّته، وألقى السلام يردّون باهتمام واحترام، ويقولون ما معناه، رجل مجتهد في تحصيل المعرفة، كانت الثقافة قيمة حقيقيّة واضحة.

* جدّت أزمنة، وحدثت تبدّلات جذريّة في حياة الناس، وكثر ضخّ الأدوات الاستهلاكيّة، والتي أصبحت من ضروريّات الحياة، وبدأ النّاس يتحدّثون عن ظاهرة ما سُمّي آنذاك “ثمن فنجان قهوة”، وتعني مبلغاً من المال، أو هديّة مجزية لتسهيل أمر ليس فيه أيّة مخالفة للقانون، وهذا فتح الباب للبعض لعرقلة المعاملات من أجل الحصول على ثمن فنجان قهوة.

في ذلك الزمن، روى لي صديق أنّ له معاملة في دوائر الدولة، وهي قانونيّة من جميع الوجوه، ولقد كانت بيد موظف نزيه، سهّل أمورها كما ينبغي، وبعد أن انتهتْ، عرض عليه محدّثي ثمن فنجان القهوة، فرفض وقال إنّه لم يدخل بيته في حياته قرش ليس من حلال، وتابع صديقي فقال: سأشتري له هديّة مناسبة، وآخذها إلى بيته، لأنّ مثل هذا الإنسان الشريف يُفترَض أن يُكرَم لنزاهته، قلت: “قد يرفض”، قال باستغراب: “الرسول قَبِلَ الهديّة يا رجل”، قلت: “كم من رشاوى أخذتْ طريقها عبر هذا الحديث المُتداول”!

* في زمن آخر انتشرتْ الرشوة، ولم تعد عيباً، بل صار اسم النزّيه عند قابليها ومروّجيها “حمار”!!.

جاء أحد أصحاب الحاجات لرجل كلامه في مكان حسّاس، وأخبره أنّ لديه معاملة عند فلان، وهو يضعها في دُرْجه، ولا يُفرج عنها، فقال له: “اذهب، وقلْ له: أرسلني فلان”، فذهب الرجل وأبلغه، فأشار له برأسه إشارة تفيد أنْ لا، فعاد للرجل النّافذ ووضعه في صورة ما جرى، فقال له النّافذ: “ادفع” له، قال: “يشهد الله أني أخجل أن أرشي أحداً”، فأجابه: “إذا كان المرتشي لا يخجل فما الذي يُخجلك”؟!! قال: “مكتبه لا يخلو من الناس”، أجابه “ادفع له أمام النّاس، ولا يهمّك”.

ذهب الرجل مرّة أخرى، وكان في المكتب اثنان جالسان، فاستقبله صاحب الامضاء بوجه متسائل، وقال له: “نعم؟؟”. شعر الرجل بحرج شديد، وأخرج مئة ألف ليرة، ووضعها على الطاولة، وكانت مبلغاً كبيراً أيامئذ، فمدّ يده صاحب التوقيع، ووضعها في الُّدرْج، وقال له: “الآن زمّر بْنيّك”، وأخرج معاملته فوقّعها وناوله إياها.

*في زمن آخر كان لأحدهم معاملة حقّ، ولكنّها معقّدة، ولو لجأ إلى القضاء فقد تستمرّ عدّة سنوات، فدلّوه على أحد المكاتب، دخله فوجده مفروشاً ببذخ، وحين عرض مشكلته، قال له صاحب المكتب: “هذه تكلّفك سبعة ملايين ليرة”، هاله المبلغ، فدلّوه على مكتب آخر فطلب سبعة ملايين، دلّوه على مكتب ثالث فطلب سبعة ملايين، ما هذا؟!! لكأنهم على اتصال وتنسيق فيما بينهم.

صار لهذه الأبواب شبكتها المنظّمة!!

aaalnaem@gmail.com