المجنّدون الأبديّون مبتسمون
غالية خوجة
ماذا لو جعل كلّ مواطن من نفسه مجنّداً تطوعياً في مجاله؟ لكانت حياتنا على مختلف صعدها أكثر جمالاً وسهولة وتعاوناً واختزالاً للوقت، ليكون الناتج فعّالاً في شبكة متفاعلة في كلّ جوانبها وجهاتها وأهدافها وبنيتها الفردية والاجتماعية، ولكان مردودها النفسي والحياتي والاقتصادي أوسع رحابة، ولوجد الإنسان ذاته متفرغاً لنفسه وتأملاته وأفكاره ومواهبه وعائلته، ولقضى عمراً جميلاً لا يتأفف من لحظاته ولا يصل لدرجة يقول فيها بينه ونفسه: كيف سأمضي هذا اليوم؟ أو، يقول: الحمد لله أن هذا اليوم مضى بخير وسلام بتدبير من الله.
لولا صبر أجدادنا على تجنيد أنفسهم من أجل إعمار الحياة، لما وجدنا الشجر متجذراً ومعطاء، ولا البيوت مبنيّة، ولا الأحلام مستمرة، ولما توالت الأجيال على إنجاز الأفكار والأحلام والتطور على صعيد الذات والمجتمع والوطن.
الأجداد، رغم أمية بعضهم أبجدياً، وهذه الأمية ناتجة كأحد أهداف المحتلين، علمونا لأنهم يقدّسون العلوم والمعرفة والكتاب والقراءة والاطلاع، لأنهم موقنون بأن الحياة لا تكتمل إلاّ بأسرار المعرفة وتطبيقها ميدانياً، هذه الأسرار التي سمّتها الأساطير والخرافات بألواح القدر، واقتتلت من أجل الحصول عليها الشخصيات الخرافية والأبطال الملحمية، لأنهم كانوا يعتقدون أن من يملك ألواح القدر يستطيع التحكّم بالجميع!.
كثيرون بيننا يحبون أن يكونوا مثل هؤلاء الأجداد والجدات، مجنّدين مجهولين مستمرين في أعمالهم دون التفكير بأدنى مصلحة خاصة، لأنهم غير مكترثين بذلك، لأنهم موقنون بأنهم راحلون، وموقنون بأن الله لا يُضيع أجر العاملين.
لعلّ التفاتة بسيطة منا إلى شرائح المجتمع تكشف لنا عن المجنّدين المجهولين المحيطين بنا، وتكشف كم هم صامتون، لكنهم موقنون بالعمل والرحيل الأخير، ونحن موقنون بأن أرواحهم تظلّ مشعّة مثل القمر على الحقول، ومثل الشمس بين الفصول، فكم فلاحة وفلاح زرعوا الأرض، فحصدوها ولم يحصدوها لأن أجلهم النهائي سبق لحظة الحصاد، وكم من العاملات والعمال يكدحون بصمت، وهم موقنون بأن قلوبهم ستظلّ نابضة في آثارهم، تماماً، مثل سيدات البيوت وهنّ يبنين عائلاتهنّ بالرعاية والحنان، تماماً، مثل بعض الصنّاع وهم ينسجون على النول القديم أو الآلات الحديثة، مثل عمال النظافة وهم يفرحون بشوارع بلدهم نظيفة، فيعملون أكثر، تماماً، مثل النساء والرجال الذين يصنعون الأفكار ويبتكرونها ليبنوا الأجيال في المدارس، والمعاهد، والجامعات، أو ليبنوا العمران والمعالم والأماكن والفنادق والبيوت وهم واثقون بإنجازاتهم وخبراتهم حتى لو لم يمتلكوا بيتاً يسكنونه!
كم من المجنّدين المتطوعين المجهولين في كافة مجالات الحياة، ومنها التاريخ والسياسة والتجارة والاقتصاد والآداب والعلوم والثقافة والفنون!! كم من المخترعين الصامتين البعيدين عن الأضواء!! وكم من المبدعين المنزوين المنكفئين على أنفسهم وأفكارهم ونتاجاتهم دون أن يلتفت إليهم أحد!! وكم من أناسٍ خيّرين متطوعين سراً وعلانية من أجل العطاء والمساعدة المعنوية والمادية، وكم من المبدعين من كتّاب وأدباء وفنانين وإعلاميين يكتبون الضوء ويمضون إليه دون الالتفات لأضواء الشهرة، لأن هاجسهم رسالتهم الجوهرية لكلّ إنسان.
المجنّدون المتطوعون المجهولون يصنعون الحياة وهم مبتسمون، لأن آثارهم المشعّة تظلّ نابضة، وأرواحهم تظلّ مضيئة ليلاً نهاراً، فلا تستغرب إذا ما نظرت إلى السماء ورأيت نجومها تزداد لمعاناً، ولا تستغرب إذا نظرت إلى الأعشاب وجذوع الأشجار العابرة للفصول إذا ما ازدادت نضرة، لأن أرواح هؤلاء المجنّدين بنضارتها الأبدية تزور الأرض لتطمئن على ساكنيها ومجنديها المتطوعين، فيبارك الله وملائكته أعمالهم، وتستمر مضيئة بالمحبة والجمال والعطاء والعمل إلى ما لا نهاية.