أوروبا كجمهوريات موز لدى الولايات المتحدة
عناية ناصر
كانت الإمبريالية دائماً وستظل المسيطرة على الحكومات الأجنبية، وبشكل خاص على السياسات الخارجية لتلك الحكومات كالتجارة الدولية، والعسكرية، والدبلوماسية، وحتى السياسات المحلية.
قبل تفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، استخدمت الإمبريالية الأمريكية مستعمراتها الأوروبية المسماة “الحلفاء” والتي ستكون بالضرورة مستعمرات أو دول تابعة لأي إمبراطورية، لأن السياسات الخارجية للمستعمرات تخضع دائماً لسيطرة الدولة الإمبريالية، مثل توفير قواعد عسكرية كمواقع لنشر القوات الإمبراطورية والأسلحة من أجل زيادة توسيع الإمبراطورية، وكأسواق للسلع المصنعة في الولايات المتحدة، وليس كأراضي يتم استخراج الموارد منها مثل الدول التابعة لجمهورية الموز التقليدية.
ظلت القواعد العسكرية على رأس أولويات الولايات المتحدة، على الرغم من تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث أظهر هذا التحالف العسكري الأوروبي الأمريكي المستمر أن أمريكا إمبريالية، وأصبحت الإمبراطورية المهيمنة في العالم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. ومع ذلك، بعد عام 1991 تراجعت الأولوية الثانية لاستخدام أوروبا كأكبر سوق للسلع والخدمات الأمريكية، ففي 9 تشرين الأول 2018، نشر البنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس “فهم جذور العجز التجاري للولايات المتحدة” ، وتوصل إلى نقاط أساسية:
– تكمن التغيرات الاقتصادية العميقة في جذور كل من العجز التجاري للولايات المتحدة وتراجع العمالة الصناعية.
-ساعد دور الدولار الأمريكي كعملة احتياطية دولية في تمويل الاستهلاك المحلي للسلع المستوردة.
-إنتاجية العمل وتحول الميزة النسبية للدول النامية يفسر الخسارة في وظائف التصنيع.
تم نقل وظائف التصنيع الأمريكية إلى أماكن مثل الصين، وليس إلى أماكن مثل ألمانيا، وكانت تكاليف العمالة المنخفضة، من خلال التصنيع في البلدان التي تعتبرها متخلفة، تضاف إلى ثروة مالكي الشركات الأمريكية الدولية – هؤلاء كانوا الأفراد الذين مولوا الحياة المهنية للسياسيين مثل أعضاء الكونغرس والرؤساء، وبالتالي السيطرة على سياسات أمريكا الخارجية- لكن الأسلحة الأمريكية من منتجات لوكهيد مارتن، إلخ، استمرت في كونها وظائف تصنيع أمريكية تنتج منتجات تذهب إلى أماكن مثل ألمانيا، وليس مثل المنتجات الاستهلاكية التي تذهب إلى أماكن مثل الصين، فألمانيا تعتبر دولة تابعة للولايات المتحدة ، لكن الصين دولة مستهدفة للولايات المتحدة.
عندما أصبح الادخار والاستثمار غير متطابقين، وبدأت فجوة الادخار والاستثمار التراكمية في النمو في منتصف السبعينيات، وتضخمت إلى 11 تريليون دولار في السنوات الأخيرة، استند النظام النقدي الدولي الحالي إلى الدولار الأمريكي باعتباره العملة الاحتياطية العالمية المهيمنة والأوراق المالية الحكومية الأمريكية باعتباره مخزن القيمة الأكثر طلباً، وهو السبب الجذري للعجز التجاري المستمر في الولايات المتحدة.
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، والقضاء الفعال على الحكم الدستوري في الولايات المتحدة، من خلال العسكرة المبالغة للاقتصاد الأمريكي، وبالتالي الأهمية المتزايدة للاقتصاد الأمريكي، لوظائف التصنيع التي اعتمدت على السوق العسكرية الأوروبية المستمرة والمتزايدة الأهمية، كان العديد من المشترين الرئيسيين للأسلحة الأمريكية في الشرق الأوسط، المركز الثاني للربح الأجنبي لصانعي الأسلحة الأمريكيين، خاصةً لأنه مدعوم بشدة من دافعي الضرائب الأمريكيين، ولكن الحرب في أوكرانيا، التي بدأها أوباما ، أعادت الحرب الباردة إلى هيمنة تجارة الأسلحة.
لم تتمكن أمريكا من بيع الأسلحة التي كانت تصنعها الولايات المتحدة إلى الصين لتوضع في أوروبا، حيث كان حلف الناتو الأمريكي -بقايا الحرب الباردة- أوروبياً أمريكياً، وليس صينياً أمريكياً. وبالتالي، احتاجت أمريكا إلى زيادة قبضتها على الحكومات الأوروبية. لذلك يجب أن تعاملها بشكل أكثر انفتاحاً وجرأة مثل العملية المشتركة بين أمريكا والمملكة المتحدة لتفجير خطوط أنابيب” نورد ستريم” لإمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، على أنها جمهوريات الموز، والقيام بكل ما هو مطلوب لحمل هذه الحكومات على الامتثال لمطالب الولايات المتحدة مثل الامتثال لعقوبات واشنطن ضد روسيا وإيران.
في حين إن أحداث الحادي عشر من أيلول بررت قانون الطوارئ الأمريكي ومبيعات الأسلحة المتزايدة، إلا أن هذا الزخم كان يتضاءل كذريعة لاستمرار الإمبراطورية. وهكذا ، عندما تولى باراك أوباما منصبه في عام 2009 ، أعاد على الفور توجهه نحو أهداف الحرب الباردة القديمة، والتخطيط للسياسات المناهضة لروسيا والصين مثل “اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمار عبر الأطلسي”، و “تحالف الاستثمار والادخار”، والإطاحة بحكومات منتخبة ديمقراطياً مثل حكومة الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، والإطاحة بأية قيادة دولة تكون صديقة لروسيا أو الصين، وهذا ما يتطلب الآن من وجو بايدن إجبار أوروبا على الالتزام بسياسات مناهضة لروسيا والصين، وبالتالي، تطلب الأمر تقسيم العالم إلى حرب باردة متجددة دون الحاجة إلى عذر أيديولوجي “مناهضة الشيوعية”.
الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي نزع الصناعة من أوروبا، وهذا هو مطلوب أن تصبح أوروبا أكثر من جمهوريات الموز الأمريكية، وهذا هو السبب وراء تصميم إدارة بايدن على إبعاد وظائف التصنيع من أوروبا.
إن العديد من وثائق السياسة الخاصة بالحكومة الأمريكية، ومراكز الفكر التابعة لها والتي تركز على الحاجة المزعومة للاستمرار وتوسيع الهيمنة الأمريكية العالمية، لا تعتذر عن وجهة نظر أمريكا – لعبة محصلتها صفر- بأنه لكي تنجح الولايات المتحدة، فإن الدول التي تراها “منافسة” – تعتبرهم أعداء في الواقع- يجب هزيمتهم، وأنه يجب أن تظل جميع الدول الأخرى تحت سيطرة أمريكا.
لا تعامل الولايات المتحدة أوروبا (باستثناء روسيا) كأعداء، فهي لا تهددهم على أنهم أهداف لقنابل أمريكا، بل تعاملهم بدلاً من ذلك على أنهم “حلفاء”، أو دول تابعة لاستخدامها كمناطق انطلاق لغزواتها النهائية لهزيمة منافسيها، وهذا يستلزم معاملة أوروبا كجمهوريات موز، وتحديداً من النوع العسكري.
إن إنهاء الناتو لن يكون مقبولاً للأشخاص الذين يسيطرون على أمريكا، لأنه سينهي تلك السيطرة. ومع ذلك، فإن أي إنشاء تحالف عسكري أوروبي فقط ضد روسيا و الصين، سيعني في النهاية استبدال الناتو بدلاً من إنهائه، وهذه الفكرة ، التي اقترحها إيمانويل ماكرون وآخرون، ستكون مجرد استجابة رمزية للمشكلة. ومن أجل أن تحرر أوروبا نفسها من قبضة الولايات المتحدة المتزايدة باستمرار، فإن المطلوب هو إنهاء الناتو وقبول روسيا في صفوفها، ورؤية أوروبية آسيوية وليس “الأوروبية” المصطنعة الموجودة لمستقبلها، بدلاً من محاربتها كما يصر حكام أمريكا على ضرورة الاستمرار في ذلك.