رولان خوري.. استمد قيمه التشكيلية من فنون الغرب باسم “الواقعية الإيحائية”
فيصل خرتش
ليس غريباَ أن يعلن رولان خوري انتماءه إلى الاتجاه الواقعي الذي استمد قيمه التشكيلية من الغرب متأرجحاً بين الرومانسية والانطباعية مطلقاَ على ذلك اسم “الواقعية الإيحائية”، وأن قيمته التشكيلية في كونه واحداً من الروَاد الأكاديميين الذين عكسوا خبراتهم الدراسية في أعمالهم دون إهمال، وأكدوا مقدرة متميزة في التصوير شقت الطريق لعدد من الفنانين الذين تتلمذوا في مدرسته الأنيقة بصيغها وألوانها.
ولد رولان خوري في مدينة أنطاكية، في 8 آب عام 1930، ليغادرها إلى حلب، حيث تابع دراسته، فحصل على الشهادة الثانوية عام 1950 وعين مدرساَ لمادة التربية الفنية في معرة النعمان، وقد ظهر شغفه في فن التصوير والرسم حين كان يصور المعالم الجميلة في الريف، وبعد ذلك سافر إلى روما للدراسة، ثمَ عاد حاصلاَ على دبلوم التصوير الزيتي من أكاديمية الفنون الجميلة، وعمل في التدريس، وسرعان ما استقال ليتوجه للإنتاج الفني ويتفرغ للعمل الإبداعي، فانطلق يرسم الطبيعة، ويصور الصور الشخصية بكثير من البراعة في الصياغة الفنية والمحاكاة الدقيقة للأشكال التي يعالجها، حيث ظهرت النتيجة في المعرض الذي أقيم له في المركز الثقافي عام 1961، وعكس هذا المعرض على إعجاب الجمهور الفني، مما شجعه على نقله إلى حمص ثمَ دمشق، وبذلك استطاع رولان أن يتبوَأ مكانة متألقة في الأوساط الثقافية والفنية إلى جانب الفنانين لؤي كيالي وفاتح المدرس حيث ساهم كلَ منهم في إغناء تلك الفترة الخصبة من حياة الحركة التشكيلية السورية، فكانت المعارض والندوات والمحاضرات تحفل بالحوارات الغنية والنقد والتحليل، وكان لرولان دوره الواضح فيها، وربما استشعر الفنان نضوج تجربته وضرورة الانطلاق بها خارج البلاد، فانطلق إلى روما، وأقام معرضاَ له في صالة “جالري اجوتر” فكان لمعرضه أثر كبير في الحركة الثقافية، خاصة في الندوة التي أقيمت له بعد المعرض، وفاز بجائزتين هناك، وبعد ذلك عاد إلى دمشق، وأقام معرضاَ فيها، وتبعه بمعرض في حلب، وقد وقع الفنان اسيراَ لآراء المعجبين بواقعيته، فأوغل في تقديم ما يحبونه، وأسرف في تأنقه الشكلي واللوني، وبالغ في إظهار الأجواء الرومانسية في أعماله، وبالرغم من أنَ أعماله تبدو وكأنها نسخت عن صور ضوئية إلا أن معالجتها الفنية تعكس إحساساَ مرهفاَ، خاصة تلك التي تصور مشاهد من الحياة اليومية في شوارع حلب.
ظهرت براعة رولان في الصياغة الواقعية والأكاديمية من خلال التزامه بالأشكال الحيوية للرياضيين الذين صورهم في عمل جداري بانورامي في صالة رعاية الشباب عام 1965حيث التزم النسب التشريحية والأبعاد الموضوعية للشكل الإنساني، مبرزاَ الملامح السليمة لعضلات الأطراف بتدريجاته اللونية المألوفة، ثمَ ما يلبث أن يشد رحاله إلى لبنان، فيقيم معرضاَ في ضهور الشوير عام 1972 ويتبعه بمعرض آخر في بيروت مصوراَ الملامح الجميلة لجبال لبنان وشواطئه الرحبة.
وتتوالى معارضه في سورية وروما، ويمارس عمله الفني بمدينة حلب، إلى أن وافته المنية في 14 حزيران 1988 وقد أقيم له حفل تأبيني في المركز الثقافي، وأقامت مديرية الفنون الجميلة معرضاَ لأعماله الفنية في الذكرى الأولى لرحيله.
لقد بات الفنان مخلصاَ لواقعيته طوال حياته، فهو يرى أن الاتجاهات المحدثة في الفن ليست إلا تعبيراَ فاضحاَ عن عجز الفنان في تصوير الواقع وتجسيده، إنه يعتبر أنَ الفن التجريدي حلَ سهل يأخذ به من يعجز عن تناول الفن الرفيع أو من يرغب في الإنتاج الفني السريع يلقي به في السوق مستغلاَ إما شهرته أو جهل الراغبين في اقتناء اللوحة.
وهكذا يبدو رولان ساخطاَ على الأنماط المحدثة في الفنون، لذلك فقد أخذ ينادي بالواقعية الإيحائية “ويستشهد بأن التاريخ يرينا أنَ الفن يرسم حركة دورية، يبتعد عن الواقعية ثمَ يعود إليها ولكن على مستوى جديد”.
اقتصر إنتاجه على موضوعين في التصوير أحدهما يتناول الطبيعة وما فيها من جمال، وما تتضمنه من عناصر حية كالإنسان والنبات والحيوان، والثاني يتناول الإنسان على شكل صورة شخصية (البورتريه)، والطبيعة كانت تستأثر بريشة الفنان الماهرة ذات اللمسة التي تضفي على المشهد جوَاً ضبابياً مشحوناً بالشاعرية والرومانسية، في لوحاته نجد الطبيعة الدافئة والرحبة التي يأخذ منها الفنان خلاصتها الأساسية لتحويلها إلى عالم منظور ويلتفت باستمرار نحو الطبيعة التي تعتبر أساسية لإظهار أحاسيسه الخاصة، ليجعل المخاطبة مباشرة وموضوعية، تسود المناظر الطبيعية قلق البحث المستمر عن المبدع وعن البحث المضني والكاشف للعقل الباطن مستخدماَ أشكالاَ ترتكز على الرسم البياني وعلى إيقاع الألوان الحقيقية والعفوية النابعة من الخلجات الداخلية لروح حساسة وفي الوقت ذاته غير مطمئنة ومتجهة نحو التقاط تلك الانفعالات الأساسية لامتداد المكان والتي ينقلها على اللوحة، وريشته ذات لون ثابت وشفاف ونابض بالضوء والألوان، تؤدي لإعطاء رؤية الشيء في الفراغ الذي يضم أكثر الألوان سعة وإيجازاً لمجموعة غنية تتداخل في اللوحات في وظيفة تشكيلية.
ويصف الفنان غازي الخالدي أعمال رولان بقوله: “عندما تنظر إلى اللوحة عنده تجد نفسك وكأنك أمام غلالة من الضباب اللوني الخاص عنده، موضوعاته كلها من الواقع، حتى ظلال الشمس يهتم بها بطريقة فوتوغرافية تماماَ، أي أنَ لكلَ عنصر في لوحته مهمة محددة مأخوذة عن الواقع الحقيقي”.
ولا يعتمد الفنان في معالجته على الألوان التي تفترش مساحة اللوحة، بل يحاول بناءها بلمسات راعشة، وضربات متتابعة متراكمة موحياً بالتركيب النسيجي الذي يذكرنا بأسلوب المدرسة النقطية، حيث تجتمع فيها النقط اللونية لتترك تأثيراَ بصرياَ على شبكية العين، فتبدو وكأنها لون واحد.
أما في رسم الصورة فإن رولان أكثر قدرة على تجسيد الملامح الشخصية بما فيها من ميزات دقيقة، وبالرغم من التطابق الواضح التي تجسدها فإنَ روح الفنان تتجلى فيها وترسم حالة الهدوء والوجوم التي تخيم عليه، فتبدو شخوصه وكأنها حالمة “وتعيش إحساساَ مثالياً فوق الصورة التقليدية المألوفة للنظرة أو الحركة أو لتفاصيل ملامح الوجه، بالإضافة إلى ما يستخدمه من خبرة لونية متراكمة تساعد العين وتنقل الإحساس وتسمو بالمشاعر إلى صورة أكثر تشويقاً من الواقع”.
وهو يستخدم في معالجته للصورة مجموعة محدودة من الألوان بتدريجاتها المختلفة عبر لمسات ناعمة في الوجه وضربات خشنة في الملابس، وبقع لونية متدرجة في الخلفية المحيطة بالشكل، فالوجه الإنساني هو محور العمل، وفيه تبدو الإضاءة الواضحة التي تتدرج فيها العتمة كلما اتَجه البصر نحو أطراف اللوحة، من هنا فقد حظيت اللوحة الشخصية لديه باهتمام كبير في معظم الأوساط الأرستقراطية، فحققت له الشهرة الواسعة مما جعله يبتعد عن المنافسات التي تدور على الساحة التشكيلية في الفترة الأخيرة من حياته التي أمضاها بعيداً عن الوسط الفني.