بين الهادئ والهندي.. أمريكا تعزّز مركز ثقلها ضدّ الصين
بشار محي الدين المحمد
لاحظ الخبراء مؤخراً انسحاب القواعد الأمريكية من العديد من البلدان التي كانت تعدّها استراتيجيةً لينصبّ اهتمامها في آسيا بين المحيطين الهادئ والهندي ضدّ ما سمّته “تزايد النفوذ الصيني” مع اقتراب الصين من تبوّء المركز الاقتصادي الأول عالمياً، بعد نجاحها في الشراكة مؤخراً مع القارة السمراء بالدرجة الأولى بدلاً من الغرب المستغل لشعوبها، حيث تعدّ واشنطن الصين في استراتيجياتها الدفاعية المتخبّطة الخطر الأول تارةً، وتارةً تستبدلها بـ”الخطر الروسي”، وخاصةً مع عجزها عن افتتاح جبهة أخرى غير الجبهة التي أقحمت فيها حليفتها أوكرانيا، ودون أن تُعير اهتماماً لتهديد السلم العالمي وتحويل العلاقات بين الدول المبنية على الاستقرار والتعاون إلى حروبٍ باتت تهدّد الأمن الغذائي وسلاسل التوريد العالمية.
وفي السياق، وخدمةً لحليفتها أمريكا، تُعلن اليابان استراتيجيةً أمنيةغير معهودة وتختلف كلياً عمّا مضى، إذ صنّفت الصين “تحدّياً استراتيجياً غير مسبوق”، ورفعت ميزانية التسليح من 40 إلى 80 مليار دولار، مع إفصاحها بأنها ستنفق 320 مليار دولار بحلول الأعوام الخمسة القادمة على تسليح جيشها، إضافةً إلى حصولها على صواريخ بعيدة المدى أو حتى ذات رؤوسٍ نووية، بدلاً من الدفاعية القصيرة المدى التي كانت تشتريها، كما أكّدت تعاونها مع كل الدول التي تشاركها النظرة السياسية، لمواجهة ما سمّته “التغيّرات الجديدة للنظام العالمي الجديد”.
بكين من جهتها استهجنت التصريحات الاستفزازية الصادرة عن طوكيو، التي تبتعد عن مسار التفاهمات المشتركة والتعاون الثنائي، معتبرةً أنّ الأخيرة تحاول الإساءة لسمعة الصين، وكخطوة للدفاع عن أمن وسلامة أراضيها حرّكت أسطولاً من سفنها نحو المحيط الهادئ، ويرى محللون أن هذه الخطوة رسالة لأمريكا مفادها أن الصين لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه أي خطر يهدّد أمنها الداخلي وهي مستعدة لجميع السيناريوهات، مع تأكيد الخبراء أنه ليس من مصلحة الصين شنّ الحروب أو معاداة أي دولة، لأنها تتمدّد اقتصادياً وتبني علاقات سلميةً، وتصدّر منتجاتها إلى جميع دول العالم وعلى رأسها أمريكا التي تستورد 30% من منتجاتها، إضافةً إلى حلفائها أيضاً.
على المقلب الآخر، قوبلت الاستراتيجية اليابانية الجديدة بالتهليل والترحيب من الرئيس الأمريكي جو بايدن، على اعتبار أنّ سياسته تشجّع كل استفزازٍ للصين من أدواته في آسيا، غير آبهٍ بأنّ التصعيد في المنطقة أصبح يعزّز التكهنات بوقوع صدام وشيك بين تلك الأدوات من جهة وبكين من جهةٍ أخرى، بعد سلسلة من الاستفزازات والمشكلات التي تثابر الإدارة الأمريكية على رسمها ضدّ الصين، فما إن تخرج بكين من مشكلة حتى تحاول واشنطن إيقاعها بأُخرى هادفةً إلى الحدّ من تقدّم الصين الاقتصادي، للتخفيف بالدرجة الأولى من الطلب الصيني على النفط الذي يرفع الطلب العالمي برمّته ويزيد السعر.
ويدّعي بايدن أنه سيجابه الصين بالطرق الدبلوماسية، ولكنه في الوقت نفسه يحرّك أساطيل بلاده والقاذفات والغواصات نحو بحر الصين، محاولاً جعل اليابان مركز ثقلٍ أساسي لأمريكا في المنطقة، وهذا ما يوحي برسم وضعٍ مشابه للاستفزازات الأوكرانية ضدّ روسيا، كما يبدو أنّ واشنطن التي دمّرت اليابان في الحرب العالمية الثانية، تسعى إلى تدميرها مرةً أخرى عبر زجّها في حربٍ، إن استمرّت بسوقها نحو التصعيد ضدّ الصين، حيث أنّ الصين في النهاية قوة عسكرية عظمى تزيد ميزانيتها الدفاعية على 230 مليار دولار سنوياً، فضلاً عن قوة اقتصادها الذي يواصل النمو في أحلك الظروف وأخطرها، وفي كل الأحوال لا يمكن لليابان التغلّب عليها.
إنّ ما يحصل الآن ما هو إلا انعكاس واضح لخلخلة التوازن الدولي والترنّح الأمريكي، حيث يرى المحللون أنّ تغيير الاستراتيجية “الدفاعية” لليابان ناجم عن تخوّفها من “الخطر الصيني” الذي رسمته واشنطن في مخيلتها، وفي الوقت نفسه إلى قلّة ثقتها بالحماية الأمريكية التي أثبتت عدم نجاعتها في كثير من البلدان التي كانت تعدّ حليفةً تقليدية لواشنطن، وخاصةً بعد أن لوحظ عدم تحرّك أي جندي من قوات “الناتو” خارج حدود بولندا للقتال مع أوكرانيا في الحرب التي وُرّطت بها، كما أثبتت تلك الإدارة للجميع مدى أنانيتها بعد أن عمدت إلى ضرب الصديق بالعدو لقطف الثمار لمصلحتها ليس إلا، وبالطبع فإن الدور السلبي التصعيدي لهذه الإدارة سيسبب التراجع الاقتصادي في الدول التابعة لها، في حين ستحقق زيادة تشغيل تجار وصنّاع السلاح الأمريكيين، بالتزامن مع مخاوفها من إحراز صناعة الأسلحة الروسية للمكانة الثانية عالمياً، فتعمد إلى نشر الخطر في كل مكان بما فيه منطقة آسيا لتنشيط بيع أسلحتها للدول التابعة لها، كما تعمد أمريكا إلى نشر الادعاءات بأنّ الصين تحاول امتلاك 1500 رأس نووي لمنافستها عسكرياً، وأنها تؤثر في حركة مرور البضائع اليابانية في بحر الصين، كما تدّعي أنّ روسيا مهتمة بمنطقة الباسفيك وتحاول تعزيز نفوذها فيها عبر التقارب مع الصين.
من ناحية أخرى، تعمل أمريكا أيضاً على تسييس ملف حقوق الإنسان عبر إظهار الصين كدولةٍ ديكتاتورية، في وقتٍ تتوالى فيه الفضائح المتعلقة بالفساد من الكيانات التي أنشأتها واشنطن كرموز لـ “الديمقراطية” وآخرها ما تمّ كشفه من فسادٍ في البرلمان الأوروبي، ناهيك عن البلدان التي غزتها باسم نشر الـ”حرية”، وهي منذ لحظة غزوها حتى تاريخه تشهد ساحات حربٍ وتطرّفاً وأزماتٍ إنسانية غير مسبوقة.
وبتحليل جميع التطوّرات يتبيّن أنّ حجم ضعف النفوذ الأمريكي يتناسب عكساً مع تنامي ملامح العالم الجديد الذي تتجه معظم دوله نحو رسم سياساتها الخاصة وبشكلٍ مستقل عن أي قوى، في حين تتشبّث أمريكا بسياستها المعهودة البشعة حتى آخر رمق، محاولةً تأكيد نظريتها الثابتة في التدخّل بالدول لرفع مستوى معيشتها واقتصادها، حيث يظن بايدن أنه بخطواته المتخبّطة تلك يصحّح “أخطاء” سابقه دونالد ترامب الذي حاول تكثيف الاعتماد على الشأن الاقتصادي والداخلي في سياسته الخارجية.