ثقافةصحيفة البعث

“العراب” في يوبيله الخمسين.. صانع النجم أم صنيعته

سامر الشغري 

هي تفضل مسلسل “العراب – نادي الشرق” لحاتم علي، بينما أفضل أنا النسخة الأصلية للعمل التي أخرجها فرانسيس كوبولا قبل خمسين عاماً، وبرأيها أن العراب السوري أقرب إلينا لأنه عرض قضايانا وأبطاله من واقعنا، وعبثاً حاولت إقناعها بتفوق عرّاب كوبولا الذي صنف كثاني أفضل فيلم في التاريخ، ولذلك سعياً مني لإحراجها سألتها: هل تعتقدين أن “أبو عليا” مقنع أكثر من الدون فيتو كورليوني؟ ردت بهدوء: سوف أترك هذه المقارنة لك، ولكن برأيي أنهما شخصيتان مختلفتان كلياً، تلك سينما وهذا تلفزيون. هززت رأسي موافقاً، ولكن في نيتي أن اكتب عن هذا الفيلم الأسطوري، وهل كان هو من صنع نجمه أم أن النجم هو الذي صنعه؟ وما سر أثره الممتد في أعمالنا حتى عناوينها.

في كتابه الذي صدر هذا العام احتفالاً بمرور خمسين سنة على إنتاج العراب تحت عنوان “اترك البندقية وخذ الكانولي”، روى الكاتب والصحفي الأمريكي مارك سيل تفاصيل دقيقة عن صناعة هذا الفيلم، والذي اشترت حقوق قصته شركة بارامونت الأمريكية من الكاتب ماريو بوزو، ثم اتفقت مع المخرج الشاب حينها كوبولا على إخراجه، ولكنها حاولت أن تفرض رأيها عليه في كثير من المسائل، حتى في اختيار البطل.

يخبرنا سيل أن كوبولا عرف منذ البداية بالضبط من يريده لكل الأدوار الرئيسية، لقد كتب قائمة أمنياته على ورق أصفر مسطر، مع وجود علامات نجمية بجوار أفضل خياراته: آل باتشينو في دور مايكل، وجيمس كان في دور سوني، وروبرت دوفال في دور توم هاغن، لتبدأ بعدها معركة العراب الكبرى والتي كان من شأنها أن تطغى على المناقشات المحتدمة حول مكان تصوير الفيلم وميزانيته المتزايدة باضطراد.

كانت مشكلة كوبولا الأولى، عندما سعى ليكون الممثل مارلون براندو بطلاً لفيلمه، أنه كان شبه مرفوض لدى شركات هوليود الكبرى، لقد كان في السابعة والأربعين وكان يُنظر إليه على أنه ممثل متقلب ومزاجي فضلاً عن تأخره عن مواعيده وسلوكه الاستبدادي، وفشله كنجم لشباك التذاكر، واستعلائه على المخرجين الذين عمل معهم ووصفهم بأنهم متسكعون وغير موهوبين، كان مسؤولو الشركة يفكرون بممثلين آخرين للعب شخصية العراب أمثال لورانس أوليفيه وتشارلز برونسون، وتخوفوا من اتفاق المخرج والمؤلف معاً لاختيار براندو لأداء الدور، والذي كان غارقاً في مشاكل زيجاته المتكررة وديونه، وحتى يقنع كوبولا المنتجين اضطر للتظاهر أنه وقع في أزمة عصبية لأن الشركة تقف في وجه خياراته، فوافقت بارامونت صاغرة ولكنها طلبت تجربة أداء، معتقدة أن نجماً بحجم مارلون براندو سيرفض هذا الإجراء الذي يطلب عادة من الممثلين المبتدئين والهواة.

في المقلب الآخر، كان براندو نفسه غير ميال بالمرة لأن يشارك في فيلم عن عصابات المافيا، ورغم حاجته الماسة لهذا الدور قال لسكرتيرته، أليس مارشاك: “لن أكون جزءاً من عمل يمجد المافيا”، ولكن الأخيرة استطاعت أن تغير رأيه رأسا على عقب عندما أخبرته وقصدها أن تستفز عنده تلك الغيرة المتأصلة لدى كل ممثل: “سوف يختارون للعب دور العراب البريطاني أوليفيه لأنه ممثل كبير وأعظم فناني جيله”. لقد شعر براندو أن اسمه ومدرسته برمتها على المحك، فهو خريج  مدرسة الروسي ستانسلافسكي في الأداء التي تنظر إليها مدرسة التمثيل البريطانية بازدراء، وبأسلوب تفصيلي يروي سيل للجلسة التي ابتكر براندو فيها شخصية الدون كورليوني من الصفر على طريقة ستانسلافسكي من داخل الشخصية لخارجها بأدق مكوناتها.. طريقة كلامه ولكنته الإيطالية ونبرة صوته وتسريحة شعره الذي لونه بالأسود بملمع الأحذية، وفمه الذي حشاه بالمنديل الورقي وأسلوب رده على الهاتف، لقد دهش كوبولا وفريقه من السرعة التي تحول فيها براندو لشخص آخر مختلف كلياً في نصف ساعة، فأبهر الجميع وشعروا أنه الوحيد القادر على لعب هذا الدور.

وأثناء تصوير الفيلم رغم أنه براندو ظل قليل الاقتناع فيه حتى أنه لم يحفظ الحوار، فكان يكتب على أجساد الممثلين المشاركين له في المشهد، أخذ بألباب فريق العمل حتى أن الممثل ليني مونتانا ارتبك بشدة عند ظهوره أمامه لأول مرة، وكان أداؤه استثنائياً فبدا كأنه رئيس عصابة حقيقي والعراب الأكبر للمافيا.

أصبحت شخصية الدون كورليوني أيقونة للسينما واعتبرت الأعظم في تاريخ الفن السابع، وظهرت مراراً بأشكال مختلفة حتى في أفلام الكارتون، واأاد براندو تقديمها في فيلم المبتدئ سنة 1990، وانتقل الهوس بالعراب إلينا واستلهم أداءه في الدراما السورية ممثلون كبار من أيمن زيدان في “قاع المدينة” وقصي خولي في “خمسة ونص”، ومؤخراً الممثل الشاب رامي أحمر في “الفرسان الثلاثة”.

أرجو بعد كل ذلك أن تقتنع صديقتي – ولا أظنها ستفعل – بأن العراب براندو سيبقى الأفضل لأنه الأصل، ولو كان بدلاءه السوريين أسماؤهما “أبو عليا” عند حاتم علي و”مختار” مع المثنى صبح.