دراسات

حرب الرقائق بين أميركا والصين

د. خلف المفتاح
لا تخفي الولايات المتحدة الأميركية تعريفها وتحديدها للصين بأنها التحدي الأساسي لها، إن لم نقل العدو الأول علماً أن ذلك (العدو ألأول) هو الشريك الاقتصادي ألأول لها، بدليل أن حجم التبادل التجاري بين البلدين يتجاوز 20 بالمائة من المستورات بينهما، ناهيك عن أن الصين تحوز على ما قيمته تتجاوز ترليون وخمسمائة مليار من سندات الخزانة الأمريكية، إضافة الى أن أكبر خمسمائة شركة أميركية عملاقة تعمل في السوق الصينية الواعدة. وأمام هذه الحقائق الرقمية: كيف لنا أن نستوعب أن ثمة منافسة أو لنقل صراعاً أميركياً صينياً في هذا الإطار، وبالتحديد الجانب الاقتصادي والسيطرة على الأسواق العالمية فيما يتعلق بموضوع الرقائق وصناعتها وحيازتها أو لنقل احتكارها؟
إن الحديث عما يمكن تسميته “حرب الرقائق” بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية يدخل في إطار أوسع يتعلق بالسعي الأميركي والغربي للهيمنة على الأسواق العالمية ومحاولة احتكار المعرفة والتقانات الحديثة بوصفها أحقية غربية من منظور فيه شكل من أشكال الاستعلاء الغربي التاريخي على دول الشرق يستبطن الفكر الاستشراقي على وجه العموم، ويجد تعبيراته في ما سمي “رسالة الرجل الأبيض” الذي سوق لها الغرب كثيراً ليسوق ويبرر الحالة الكولونيالية الاستعمارية لقرون خلت هيمن من خلالها على المشهد الدولي وكانت ضحية ذلك أكثر شعوب ما سمي العالم الثالث.
وحتى لا نخرج عن العنوان كثيراً، نعود لفكرة الواجهة بين الصين وأميركا في موضوعة الرقائق، ونشير في هذا المضمار إلى أن كل أو معظم الأجهزة الحديثة تحتوي على ما يمكن تسميته قوة معالجة حاسوبية، هي تلك الرقائق أو الموصلات “ميكروتشيبس”، أشبه ما تكون بخلايا الجسم وجهازه العصبي، وهذه الرقائق هي عصب الصناعة الالكترونية المتقدمة، ولهذا المعالج الحاسوبي الإلكتروني سلاسل الإمداد مثل دارات الكهرباء أو ما يعرف بالترانسستور الموجود في الراديو أو المذياع وغيره من أجهزة إلكترونية، وهذه الرقائق لها دورة إنتاج حلقتها الأولى تبدأ من الرمال حيث النسبة العالية من السليكون، وهنا تجدر الإشارة الى أن الرمال الموجودة في كل من سيناء والجزيرة العربية ووادي السليكون في أميركا هي من أفضل هذه الرمال والتي يعتبرها البعض نفط المستقبل وثروتها الكبرى.
وبلغة الأرقام، تنتج جمهورية الصين حوالي عشرين بالمائة من الكوتا العالمية من هذه الرقائق البسيطة طبعاً، ثم تليها باقي جول العالم، ولكن في النوع الثاني – وهو الرقائق المتقدمة التي تعتبر الأساس في بنية وتركيب الصناعات المتقدمة من طائرات وأجهزة كمبيوتر وهواتف ذكية وسفن وقطارات حديثة وكل ما يتعلق بالديجيتال والرقميات والصناعات النووية والحروب السيبرانية – وهنا الجانب المهم، فإن المنتج الأول لهذه الرقائق أو شبه الموصلات أو الميكروتشيبس هو جزيرة تايوان التي تحوز على ثمانين بالمائة من حجم الانتاج العالمي، تليها بعد ذلك كل من الصين والولايات المتحدة الأميركية وهولندا واليابان وكورية الجنوبية. ولعل أحد أهم اسباب الدعم الأميركي لتايوان هو امتلاكها أو احتكارها لهذه التقانة المتقدمة، والتي يطلق عليها التايوانيون خط الدفاع السليكوني أي تلك التقانة التي تشكل سور حماية لبلدهم.
وفي إطار سعي الصين لتوطين تلك التقانة المتقدمة عبر حيازة مدخلاتها ومخرجاتها بما يعزز اقتصاديتها بسلسلة إنتاج وطنية خالصة تمنحها الاستقلال التقاني والعلمي وسلطتهما، أي سلطة التقانة وسلطة المعرفة، من خلال استيراد مستلزماتها من منتجين أساسين لها، هما هولندا واليابان بشكل أساسي، تعمل أميركا بكل إمكاناتها لمنع هذين البلدين وغيرهما من دول، مثل كوريا الجنوبية وألمانيا، من بيعها للصين عبر التهديد بفرض عقوبات على أية شركة تقوم بذلك، ما جعل الصين تهدد بتقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية حيال الموضوع لمخالفته لنظام عملها. ونظراً لأهمية هذه المسألة في الحسابات الأميركية، فقد تحدث عن ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن منذ عدة أيام مدرجاً سياق حديثة في إطار ما أطلق عليه “الحفاظ على المصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية”، مبيناً أن أميركا ستقوم بدفع حوافز عالية للشركات الأميركية المنتجة لهذه الرقائق شريطة أن لا تقوم ببيعها للصين، خاصة وأنها بحاجة ماسة إليها بسبب توقف أو تراجع إنتاجها خلال السنوات الثلاث الماضية بسبب جائحة كورونا.
وبلغة الارقام، يشار الى أن حجم مبيعات هذه الرقائق قد بلغ، خلال سنة 2022، ما يقرب من التريليون دولار ليصبح في مقدمة “السلع” الالكترونية في سوق التجارة العالمية، وهو رقم مرشح للازدياد خلال السنوات الخمس القادمة، وهو ما يفسر المنافسة الاقتصادية والسياسية والمعرفية لحيازة واستثمار تلك التقانة المتقدمة.
خلاصة القول أن ثمة حروب باردة وقد تكون ساخنة سيشهدها العالم قد تختلف عن سابقاتها، فإذا كانت الحرب الروسية الأوكرانية، التي تحولت إلى مواجهة مباشرة بين الغرب وروسيا، قد أفصحت عن أهمية القمح والغاز في الصراع الدولي فإن حرب الرقائق وموصلاتها وحروب التقانة وسلطة المعرفة ستكون هي العناوين الكبرى للصراع والمنافسة على قيادة العالم في العقود القليلة القادمة. ولعل السؤال هنا: هل فكّر العرب واستبصروا ما هو قادم، وهم من يملك ويحوز على أغلب الثروات في العالم من نفط وغاز وقمح ورمال بيضاء تمت الإشارة إليها في إطار الحديث عن عنصر السليكون، نقطة البداية وحلقة الإنتاج الأولى للموصلات، أو ما سمي الرقائق “ميكروتشيبس”.