علاقات مرهونة بالمصالح
عناية ناصر
لقد دخل العالم مرحلة جديدة في منافسة القوى العظمى، وهو يمرّ بتحول عميق، حيث ضغط الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة من أجل سياسته الخارجية الإستراتيجية والمستقلة. ومع ذلك، فقد أجبر الصراع بين روسيا وأوكرانيا الاتحاد الأوروبي على التعامل مع الولايات المتحدة، ما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن التعاون عبر الأطلسي قد دخل مرحلة جديدة، إلا أن هذا الاستنتاج مشكوك فيه، فقد كان الصراع في أوكرانيا مكلفاً وتجاوز التقديرات، كما تسبّب في رد فعل عنيف ضد مصالح أمريكا الخاصة. على سبيل المثال، أدى هذا الصراع بشكل مباشر إلى أزمة طاقة وغذاء عالميتين، بينما ارتفع التضخم في البلدان المتقدمة، كما أصبح هذا الصراع عاملاً مهماً ساهم في ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة.
ومع تصاعد الصراع، أدرك الاتحاد الأوروبي، الذي يدفع مباشرة فاتورة هذا الصراع خسائره، حيث أصبحت الاختلافات بين المطالب الاستراتيجية والمصالح الأساسية للولايات المتحدة وأوروبا بارزة بشكل متزايد، وهو ما يمثل عقبة كبيرة أمام طموحات الولايات المتحدة لمحاولة بناء تحالف أوسع مناهض للصين، فقد ظهرت النزاعات المحتملة بين الولايات المتحدة وأوروبا مع إدخال قانون خفض التضخم، والذي يهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية للصناعات التحويلية الأمريكية في الأسواق الدولية من خلال الحواجز أمام التجارة والاستثمار، والإعانات الحكومية.
يُنظر إلى القانون على نطاق واسع، في مجتمع الأعمال الأوروبي، على أنه ضربة أساسية لكثير من قطاع التصنيع في أوروبا، وإهانة أخلاقية للاتحاد الأوروبي الذي هو بالفعل في خضم أزمة الحرب والركود الاقتصادي. على الرغم من أن الرئيس الأمريكي جو بايدن استقبل نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بطريقة رفيعة المستوى، إلا أن الولايات المتحدة تعتبر التضحية بأوروبا مصلحتها الأساسية. في الواقع، في سياق العولمة التي تهيمن عليها مبادئ رأس المال، فإن العلاقة عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا لا تتمتع بأي شيء خاص على الإطلاق، وهي في الأساس مجرد علاقة مصالح.
تاريخياً، كانت الدول الرأسمالية من الدرجة الأولى في أوروبا هي الأجنحة الرئيسية للمعسكر الغربي في العالم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، في أوروبا في فترة ما بعد الحرب الباردة، استفادت الولايات المتحدة بالكامل من نفوذها الاستراتيجي الذي تشكل منذ الحرب العالمية الثانية، واستخدمت بمهارة التناقضات الداخلية في أوروبا، وأثارت باستمرار العداء العرقي والكراهية العنصرية، وأكدت هيمنتها على أمان الأوروبيين. في الخريطة السياسية العالمية للولايات المتحدة، لا يمكن لموقف الاتحاد الأوروبي إلا أن يكون تابعاً لنظام الهيمنة الأمريكي.
إن التعاون عبر الأطلسي هو أمر معقد، فمنذ تولي بايدن منصبه، سعت الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف أوسع من الدول الغربية مناهض للصين، وشيطنة الصين والمطالبة بالتعاون مع الدول الغربية الأخرى.
تكمن المشكلة في أنه في مجال التعاون الاقتصادي والتجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كانت الولايات المتحدة تحاول فرض معاييرها الصناعية وقواعدها التجارية على الاتحاد الأوروبي، مما يجبر أوروبا على الخضوع لمطالب الهيمنة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة على حساب التخلي عن مصالحها الاقتصادية الأساسية. في مجال التكنولوجيا الفائقة والصناعات الناشئة الموجهة نحو المستقبل على سبيل المثال، تستخدم الولايات المتحدة حتى “وسائل غير تقليدية” لقمع التطور الطبيعي للصناعات ذات الصلة في أوروبا. من خلال تلخيص التطورات الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا في العامين الماضيين، ليس من الصعب رؤية تسبّب إدارة بايدن في أكبر ضرر جوهري للتنمية الاقتصادية الأوروبية والأمن الجيوسياسي.
تجدر الإشارة إلى أن الصراع بين الولايات المتحدة وأوروبا من حيث التفكير الاستراتيجي الأساسي يعكس بعمق الاختلافات المتأصلة بين الحضارة البحرية التي تهيمن عليها الثقافة الأنغلو ساكسونية، والحضارة القارية التي تهيمن عليها ألمانيا وفرنسا. لذلك لا يمكن للولايات المتحدة أن تقبل بأوروبا قوية تتمتع بشعور من الاستقلال الاستراتيجي، ولا يمكنها أن تقبل أن يبني الاتحاد الأوروبي علاقات ودية ومترابطة مع القوى المجاورة بالطريقة الطبيعية للجغرافيا السياسية. بعبارة أخرى، تقوم مصالح واشنطن على خسارة مصالح أوروبا الخاصة، فهل يمكن لمثل هذا الوضع أن يستمر في عصر الاضطرابات العالمية الدراماتيكية؟.
في الشهر الماضي، قام كبار القادة الأوروبيين الذين استيقظوا من سباتهم بزيارات إلى الصين دولة تلو الأخرى، والتي بدت وكأنها تقدم إجابة لاتجاه العلاقات عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة وأوروبا، كما أجبرت الدروس المؤلمة من الصراع بين روسيا وأوكرانيا الاتحاد الأوروبي على إعادة التفكير في معنى العلاقة الصحية بين الصين والاتحاد الأوروبي.