فلامنكو…. فن الغجر والفقراء
أمينة عباس
لم تكن المحاضرة التي ألقاها مؤخراً مهيمن ملص تحت عنوان “فن الفلامنكو” في المنتدى الاجتماعي بدمشق إلا فرصة مناسبة للحضور للتعرف على هذا الفن من خلال المعلومات التي قدمها والفيديوهات التي اختارها للوقوف على تفاصيل هذا الفن وأهم المشاهير فيه رقصاً وعزفاً وغناءً، وبيَّنت حنان العاصي، أمينة سر المنتدى، أن ملص خير من يتحدث عن هذا الفن وقد كرَّس له حياته رقصاً وعزفاً، وما زال حتى يومنا هذا يتابع نشاطه العملي كراقص وباحث في أنواع الرقص وأسسه وتاريخه، ومازال الرقص بالنسبة له المحور الذي تدور حوله معظم الأنشطة الفنية والثقافية التي يقوم بها، في حين أشار ملص إلى أن هذا الفن الرفيع الذي يلامس أرواحنا أسَرَه بجمال إيقاعاته وألحانه التي تكاد تطابق تراثنا الموسيقي مما دفعه لتعلم رقصه ومن ثم دراسته بشكل أعمق لكي يتوصل إلى مكنونات الجمال فيه، مبيناً أن هذا الفن سحرَه لدرجة تمنى أن يعود فيها الزمان إلى الأندلس ليشاهد لحظات ولادته الأولى وسط حضارته الأندلسية.
لائحة التراث الإنساني
في العام 2010 أدرجت منظمة اليونيسكو رقصة الفلامنكو على لائحة التراث الانساني، ومنذ ذلك الحين تم إعلان 16 كانون أول يوماً دولياً رسمياً للفلامنكو، هذا الفن الذي ألهمَ الشاعر نزار قباني أثناء سفره إلى مدريد بالعديد من القصائد ضمَّها في ديوانه “الرسم بالكلمات”.
ركن أساسي في الثقافة الإسبانية
وبيَّن ملص في بداية المحاضرة أن أصل الفلامنكو غير معروف على وجه الدقة، حيث تضاربت آراء المؤرخين والدارسين حول طريقة تطوره، ومنها أن أصل الفلامنكو يعود إلى الغجر الذين انطلقوا إلى الهند في رحلة طويلة قطعوا فيها آسيا وأوربا وعبروا منطقتنا قبل استقرارهم في أوربا كجنوب إسبانيا (أندلسية) ويوغوسلافيا وهنغاريا ورومانيا، وقد صلوا إلى الأندلس عام 1425 حين كانت إسبانيا تحت حكم العرب، وقد حملوا معهم كل ما تأثروا به من موسيقا وغناء أثناء عبورهم تلك المناطق، حيث نجد في الفلامنكو تأثيرات عربية ويونانية في الموسيقا والإيقاع إضافة إلى التأثير الهندي الغالب عليه، مشيراً ملص إلى أن الغجر الخيتانوس بالإسباني عانوا من ظلم ملوك إسبانيا الذين اضطهدوهم في محاولة لمحو آثارهم ومنعهم من التحدث بلغتهم أو ارتداء أزيائهم الشعبية، فهربوا إلى أعالي الجبال خوفاً من بطش وعقاب الملوك الذين هددوهم بمحاكم التفتيش وقد ساهمت الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936-1939 في هجرة وتشتيت فناني الفلامنكو وغيرهم ونفيهم إلى المكسيك.. وفي القرن الثامن عشر تغيرت النظرة للغجر، فهبطوا إلى القرى والمدن الصغيرة جالبين معهم فنهم الذي سحر الإسبان وأدهشهم، فازدهر هذا الفن في المثلث الذهبي للفلامنكو في إسبانيا والذي يتألف من مدن هي تيريانا وخيريز وكاديز بالإضافة لمالاغا التي كان لها مساهماتها في الفلامنكو، وفي مطلع الستينيات ظهر فنانان شابان غيَّرا وجه الفلامنكو، الأول عرف بباكو دي لوثيا أحد أهم وأكثر عازفي الغيتار تأثيراً بتاريخ إسبانيا، والثاني مغنّ عُرِف باسم بكامارون، وبتحالفهما نشأت ظاهرة ثنائية لا مثيل لها في فن الفلامنكو ما تزال أصداؤها تتردد إلى يومنا هذا، مؤكداً ملص أن الفلامنكو انتشر شيئاً فشيئاً في جميع أنحاء العالم لا سيما اليابان حيث توجد معاهد ومدارس لتعليمه يفوق عددها تلك التي في مدريد وأصبح ركناً أساسياً في الثقافة الإسبانية ومكوّناً مركزياً من مكونات الفن الإسباني الذي تأثر كثيراً بالأغنية والموسيقا العربية.
عناصر ومكونات الفلامنكو
يتكوّن الفلامنكو من ثلاثة عناصر هي الغناء والرقص وعزف الغيتار والتصفيق اليدوي، موضحاً ملص أن الغناء أهم مكونات الفلامنكو ويتميز بالنغمات الحزينة المأسوية والصرخات التي تشبه العويل والتي تعبّر عن مكابدات الغجر والفقراء، أما الغيتار فهو المكوّن حيث يؤدي العازف دوراً مهماً في توثيق التواصل بين المغنّي والراقص وتحقيق الانسجام والتناغم، ويحتل الرقص المكوّن الثالث الذي يجسد المشاعر والعواطف التي تعبّر عنها الأغنية بحركات الجسم ويشترط في الراقصة أن تكون موسيقية بارعة إلى جانب لياقتها البدنية التي تمكّنها من إتقان الحركات وضرب الأرض بقدميها برشاقة وقوة، أما المصفقون فهم عنصر مهم في هذا الفن، فالتصفيق الملازم للفلامنكو آلية ايقاعية مرافقة معقدة وذات أهمية قصوى وله قوانين دقيقة يجب الالتزام بها، فهو تعبير إيقاعي للكلمات والنوتات والمشاعر ووظيفة المصفقين تحفيز الراقص وتقديم الدعم بتحديد النغم وضبطه عبر تصفيقات متتابعة ومتسارعة، كما توقف ملص عند مكوّن رابع هو الذي يدفع الفنان للإبداع في الفلامنكو، خاصة في الرقص وهو ما يسمى بالسلطنة التي تدفع الفنان للإبداع، وهو ما يسيطر على روح وجسد العازف أو الراقص أو المغنّي، وقد وصف الشاعر لوركا ذلك قائلاً: “تحدث السلطنة عندما يشعر المرء أن الموت ممكن”.
أيقونة الفلامنكو
ورأى ملص أنه لا يمكن الحديث عن فن الفلامنكو دون الحديث عن أهم مشاهيره عزفاً ورقصاً وغناءً، ومنهم باكو دي لوثيا الذي ولِد في جنوب إسبانيا 1947 والذي يوصف بأنه امبراطور الغيتار وأيقونة الفلامنكو بسبب تجديداته وإضافاته التي قدمها إلى هذه الموسيقا، واكتشفه والده في عمر الثامنة، فرعاه بالتدريب القاسي والمعايير العالية للأداء حيث كان يتدرب لمدة 14 ساعة يومياً تحت رقابته الصارمة، وقام بجولة في أميركا بعمر 18 سنة وهناك التقى سابيكاس أشهر عازف لغيتار الفلامنكو آنذاك والذي نصحه بإيجاد أسلوبه الخاص بعيداً عن تأثيرات أستاذه الأول وهذا ما حدث حيث أوجد أسلوبه الغجري المتميز الذي اتبعه كل من أتى بعده من العازفين، وكان لقاؤه بالمغني الأسطوري كامارون نقطة تحول وقفزة نوعية في نجاحه العالمي، إذ قاما معاً بجولات عالمية سجلا فيها الكثير من الأغاني التي قدماها بشكل مشترك وكان لهما الفضل في نشر الفلامنكو في العالم، وتأثر بالجاز وعزفَ مع أشهر موسيقييه بأسلوبه الغجري كونشيرتو الغيتار الشهير آرانخويز للمؤلف الشهير رودريغو الذي اعترف بأن عزف باكو كان الأقرب للفلامنكو الحقيقي الذي أراده الملحن ولم ينجزه أي عازف آخر سواه، وقلّده الأمير فيليب وسام أمير اعترافاً بموهبته وإنجازاته، كما عرّف ملص بسارا باراس من أساطير راقصات الفلامنكو المميزات بأسلوبها التحديثي والتي ولدت عام 1971 وهي راقصة عالمية مشهورة، سافرت إلى جميع أنحاء العالم وتعلمت الرقص من والدتها التي كانت تدير مدرسة رقص في إسبانيا، ونالت شهرة وسمعة واسعة عندما انضمت لشركة مانويل موروا وحصلت على العديد من الجوائز من بينها جائزة أحسن راقصة إسبانية في الأداء، كما أشار ملص في حديثه إلى شاب سوري هو أيمن بيطار الذي عشق الموسيقا وآلة الغيتار والذي سافر إلى إسبانيا 2011 وانتسب هناك إلى الكونسرفتوار في برشلونة وقرر الذهاب إلى عاصمة الفلامنكو غرانادا وهناك افتتح ورشة لصناعة الغيتار الإسباني.