علم التجربة الجمالية
رائد خليل
جاء الفن كتحولٍ قصدي بعد سلسلة انعطافات، محملاً ومملوءاً ببطانة جمالية، ترجمها بعضهم ووصفها توصيفاً دقيقاً، ليحملوا لنا مصطلحاً جديداً هو “الاستاطيقا” بمفاهيمه واستدلالاته، وبملاءات حداثوية بعيداً عن الكلاسيك، الذي عبّر عنه أحدهم فلسفياً بأنّ ما يمتّع كونياً لا يمكن الحكم عليه فكرياً.
إذن، القضية تعشّش في ثنايا النظرة النافذة التي تُبنى على معطيات روحية خالصة بعيداً عن سلال الألوان وضربات الفرشاة بمقاساتها المثالية، إضافة إلى عامل الموقف المكوّن للفكر في طرح أسباب الرؤية.
الفن هو استفزاز المخيلة، لقول الجميل، بحثاً عن معادلة الإدراك الحقيقي، والحكم على مفاصل العمل ضمن مجالات واسعة الطيف.. ومع هذه الإحداثيات الفنية المتوالدة، برزت نظرة فلسفية غيّرت مفهوم الكلاسيك، لتقف عند عتبات القراءة الحديثة للواقع، وهذا يعدّ نقلة مهمّة في التخلص من رواسب القديم الثابت في بنيانه التشكيلي للانطلاق نحو عوالم الذات المنغمسة في قواميس التجديد والنزعة الرومانسية.
ويحاول الفن دائماً ملامسة الواقع بمثالية مطلقة تحفل بحساسية مفرطة فيه انطباع واستدلال وبحث عن القيمة الفنية، متحرراً من قيود المقاييس القديمة وهيمنتها، لقلب الصيغ المتوارثة، ولتكون غرضاً لبناء مخيلة حديثة بأثواب جديدة.
لذلك، وباستقلالية تامة بعيداً عن كل قيد يحدُّ من حركة الذات في ملعب الأحاسيس، حاول التمثيل الواقعي للفن أن يبلور الأنا في قوالب حداثوية حققت منعطفاً مهماً في رسم تصاوير جديدة بإيقاع جديد ومقامات إدراكية حسيّة وبأخلاقيات جديدة غيّرت منظومة القيم المتعارف عليها، إضافة إلى عوامل العقلانية بكامل حيويتها لتحوّل النص الفني إلى مقولة تسعى للديمومة بصرف النظر عن تأريخ الواقع، وهذا ما خلق صراعاً حقيقياً بين مفاهيم تقول بزوال الخلود وتلاشي الفن لصالح مصطلحات جديدة بإيقاع استهلاكي سريع طالما هناك زخم فني في المجالات كافة. إذن، هذا الصراع بين الديمومة الفنية والتلاشي الذي دعا إليه بعضهم بحجة أن الأثواب تتبدل، خلق معادلة مشوشة، ولكن هذا لاينفي أن الطبيعة تصبح أكثر جمالاً حينما تتدخل يد الفنان فيها بحسب هيغل.
إنّ الوقوف أمام سرديات الواقع، يجعل الجمال الفني حالة قصدية لامتناهية من خلال بعض المواقف المكوّنة للفكر.
إذن، هي إشارات وتخيّلات تعكس الحالة السيكولوجية للمشتغلين على بنية العمل وحشد ما يعتمر في النفس لخلق صيغة ترفع من قيمة الفرد أولاً، وتهذيب الرؤية المجتمعية وخلق منعطف يدعو للانغماس الفردي في الاستكشاف لبنية الإنسان بكل مظاهره وتفكيره وانطباعاته ثانياً. وهذه صرخة جديدة تدعو لمقولة (الفن للفن) ولتأخذ شكلاً متوالداً دون التباس في التصنيف المعاصر.
تحاول اللوحة الفنية، بنصوصها وبمعانيها التوليفية، ومنظورها النقدي المواكب، تقديم صورة أبهى وأكثر تطوراً.. وليس الغاية أن نخلق حكاية ببعد واحد بل ترك مساحة تعبيرية حرة بمرجعيات متعدّدة تجعل لذاكرة الإنسان قولاً سرمدياً، ينتصر للجموع، بعيداً عن أدبيات ضيقة تخضع لسطوة الكلاسيكية والتحقيب. وهنا سؤال اللحظة، هل الفن يشكل شروقاً آخر كردّ فعل على ويلات التفكير الأحادي وفلسفات حيكت لأغراض شتى؟
دعوات التغيير طالت كل شيء.. حتى القيم يجب أن تتغيّر وتقلب مفاهيمها بحسب نيشته..
إذن، أهمية طرح السؤال الفلسفي الإشكالي في الفن تكمن في إظهار التمثلات والشيئية والطقسية، وليذهب بنا الحديث إلى مقولة الفرنسي “دوشان” العمل الفني يصنعه المشاهد، فهل وصلت الرسالة وغدت واحة للتصور الخلاق وبناء جسر للتلاقي دون إنكار مصطلح التفكيك الذي يعيد بلورة المنتج الفني المعزز بنوازع النظرة الذاتية؟.
يرى بعضهم، أنّ النتاج، يشكّل بداية موتِ المؤلف، وهذا ما طرحه المنظّر الفرنسي “رولان بارت” وأجاب عن سؤال يقضّ مضاجع الكثيرين، إذ حدّد جوهر القول بأنّ التأويل المتعدّد هو المهيمن على العمل وعلى الفنان نفسه، لذلك يبقى دور الفنان ضئيلاً في المشهد الفني. إذن، هي سلطة جديدة بعناوين هيمنة جديدة، ألغت كل الحدود الوضعية لخلخلة البنية المرسومة سابقاً. وفي الحداثة الفنية ثوابت لم يتخلّ عنها كثيرون.. لهذا جاء التفكيك، ليعلن التمرد العقلاني على موروثات وسطوح ومبان بصيغة معدلة وجديدة، ولم يخلق توافقاً كاملاً، وهنا، كان لابدّ من ظهورات تنتصر للتعبيرية الجديدة، وهذا ما يسمّيه بعضهم بالتقشف الفني، إنّ كل ما يفكر فيه الفنان ويعبّر عن جوانيته، يشكل فلسفة ذاتية خالصة بغضّ النظر عن آراء الجموع والنقاد، مادام يبحث عن جوهر مفقود، وسبر أغوار الجميل الاستاطيقي كردّ فعل على خراب انطلق من الدادائية إلى يوما هذا. هذا التحول الإسقاطي، جاء لخلق منظومة تعبيرية على حساب القصور اللغوي من كتابة ونطق.. فكانت الخطوط بديلاً وحاجة وخلق معادلة السيكولوجيا والتشكيل، والكلُّ يصبّ في بوتقة تكاملية واحدة دون نزاع في الجوانب الإبداعية، ولكنْ ضمن سياقات التحرّي والاستنباط والاستشراف. وهذا يشكّل تياراً بحثياً لا ينضب في الاستعدادات المنهجية وتحليلها ضمن سياقات فنية متوالدة. ويعدّ الإشباع الذاتي من التحصينات الأولية لدفع حركة النمو الذهني وعجلته وتحقيق المآرب، وهي من وسائل الإسقاط، أو صيغ بلاغية هدفها التنفيس، وتشكّل –أي الصيغ- منبهات لا شعورية تدفع الفنان القادر على تفريغ هذه الحمولات المعرفية والنصية البلاغية على سطوح العمل لقياس التفاعلات وبناء شخصية جديدة من خلال التلقي والاستبصار والتنمية. كلّ هذه الأغراض الفنية تشكّل جملة دوافع هدفها تسجيل اللحظة بشقّيها المادي والروحي.. وهو تعبير رمزي، يسمح للفنان بالسيطرة على الفراغ، وخلق بيئة مؤثرة، تنعكس على العالم الخارجي في حلقة تبادلية وتشاركية، تُظهر المدى الانفعالي والقيمة. وهذا يأخذنا إلى قول “كارل يونغ” في تحديد الوظائف النفسية، التي تبدأ بالتفكير، وتمكّن الفرد من فهم طبيعة نفسه للأشياء المحيطة به.. ثم الوجدان، والتي تعكس هذه الوظيفة قيمة الأشياء بما في ذلك الشعور، ويأخذنا إلى الإحساس الذي يمدّ الفرد بالحقائق العيانية والمحسوسة. أمّا الوظيفة المهمة جداً، فهي الحدس أو الإلهام الذي يمكّن الفرد من الإدراك بوساطة الشعور واللاشعور، ومن النفاذ إلى جوهر الواقع.
إذن، يُبنى الواقع على نظريات وتنويعات مرتبطة بمفهوم (المضمون العقلي)، وهذا يتطلب جهداً كبيراً في الترتيب والتصنيف والقراءة المنهجية لأمثلة الجمال التي تخرج من رحم الثراء المعرفي، إضافة إلى التصورات الخلاقة وتحليل عوامل الجذب والإدراكات الحسية.
وتندرجُ كلّ المشاهدات في إطار (علم التجربة الجمالية) الذي يضعنا أمام مفترق رأي، بين الحديث الفلسفي الذي يضع الشكّ في كلّ تفصيل لخلق برهان جديد، والفن بتأملاته الملونة الانعكاسية للواقع النفسي الذاتي.
وهذا التكريس، ليس نفعياً، بل عودة إلى الذات، لحملها على تغيير اتجاه بوصلة التقليد، وبوسائل مقفاة، تظهر انفعالات ومشاعر لا يمكن إلا أنْ تكون تصورات متدفقة لفهم العالم دون إحداث خلل في سلسلة التصورات، كي لا يصيبها صدأ الإنكار. فالفن بأبعاده الجمالية، هو التقاء الإحساس بالعقل، والطواف حول المضامين الروحية، التي تعتنق الزمكان، كفعل حدسيّ يجانب التصور حدّ الامتزاج.
إنّ كلّ المضامين التي يزخر بها العمل الفني هي امتداد تصوري مسربل بالمبررات والمقولات التي تزود كلاً من المشتغل والمتلقي بقيم جديدة، وتجعلهما يمتلكان ثروة حقيقية من التصورات التي تشكل ثروة من “ألوان المجاز” التي تحرّر العقل الذي يعدّ بيت التجريدات ومحركها الأساس.
ومن هنا، يرى بعضهم أنّ الجمال هو المأوى الحقيقي للتصورات والانطباعات الذاتية، وهذا لا يخلو من المتعة والقيم الشعورية بغضّ النظر عن الحياد في قراءة الجمال وضده.. فكل شيء له مبرراته، وما نراه جميلاً، قد يراه الآخر عكس ذلك.. فعلى أي أساس نقول: “إنّ المربع أهم من الدائرة” أو ما ينطبق على الجنس البشري في القبيح والجميل.. وكله رؤية عينية مرتبط على نحو أو آخر بالتصور العقلي.
والسؤال الأهم، هل استطاعت الفلسفة حسم مشكلة الفصل بين الجميل والقبيح..؟ أم أنّ الموضوع رهن المدركات الحسّية والشعور الأخلاقي؟