هذه ليست حريّة، ولا وعياً، ولا معرفة
د. عبد اللطيف عمران
أغلبنا صار أسيراً تحت وطأة متابعة ما ينشر ويبث عبر وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار وبوستات وفيديوهات ودراسات مزعومة لمراكز أبحاث مغرضة وصحف مأجورة لدول وظيفية.
وبمتابعةٍ سريعة، ودون تدقيقٍ وتمعّن وتفحّص يرسلها إلى أصدقائه أفراداً أو مجموعات، على أنه قدّم شيئاً جديداً أو طريفاً فيه مفارقات عن الواقع، أو معلومات مستورة أو فضائح.. بمايصبّ في نشر الشائعات (المغرضة) – أي ذات الغرض والهدف الهدّام – في أغلب الأحيان، فتظن نفسك أنك صرت أكثر وعياً من غيرك، وكشفت المستور، وصار الجميع مداناً وتحت الطلب أمام معلوماتك الطريفة.
فأنت حين تزعم أنك صاحب حق و(حرية) في أن تطّلع وتقرأ وتنظر وتسمع ما تشاء من الفيسبوك، والمواقع، واليوتيوب، والفضائيات، وترسل هذا فوراً إلى من حولك… في الحقيقة تكتشف أنك صرت مستلباً من الآخرين في إرادتك ووعيك ومتابعتك، بعيداً عن الحرية والوعي والمعرفة الحقيقية، وخاصةً حين تتفحّص مصادر متابعتك، وأهداف هذه المصادر، فأنت ترسل إلى أصدقائك مستسلماً فتؤذيهم دون أن تكلّف نفسك عناء التبصّر والتعليق الواعي كواجب وطني وإنساني وعقلي، وبهذا أنت ودون قصد تستهدف الوعي الفردي والجمعي والوطني والمعرفي أيضاً، وكذلك تهدر الوقت دون جدوى، وتسيء إلى الوحدة المجتمعية والوطنية حين تغذّي الذاكرة أو تحقنها بسموم خصومك، ولا سيّما أنك تعرف مسبقاً أنّ هذه المصادر تستهدف شعبك وبلادك وقيمك وحقوقك ورموزك الوطنية: شعباً وجيشاً وقيادةً. السوريون شعباً، ومؤسسات: برلمانية وتنفيذية وحزبية، منظمات ونقابات، عمالاً وفلاحين ومثقفين وفنانين وطنيين يعرفون ويعترفون أنهم يعانون من: أخطاء، وضغوط، وغلاء، وفساد، وفقر، وانخفاض المستوى المعيشي والمعاشي، وتعثّر الأداء والاصلاح الإداري والاقتصادي والمالي والخدمي والانتاجي، وهم جميعاً يتحدّثون في ذلك رسمياً وشخصيّاً في البرلمان والحكومة والإعلام والمجالس والندوات بحريّة ووطنية، أحياناً بموضوعية وأحياناً بقسوة وتطرّف وانفعال، ونادراً جداً جداً ما يُحاسب على رأيه، أو على وعيه إلّا وفق القانون والمصلحة الوطنية.
ويكاد المرء يستغرب هذا السيل من التشكي والتبرّم والمبالغة والتهويل المنتشر بسهولةٍ وحرية غير مسؤولة، ومعرفة غير ملتزمة وغير واعية في وسائل الميديا المتعدّدة، والذي يتناقل أخباراً محبطة في الغذاء، والدواء، والهجرة، وسعر الصرف… وفي الوضع السياسي والميداني.. إلخ، وكأن أصحابه يقدّمون شيئاً غير معروف، أو غير متوقّع من نتيجة هكذا حرب، وعدوان، وحصار، واحتلال، وعقوبات، ومؤامرة هي نار وقودها الناس والحجارة من كافة الأطراف، وبما لا يعرف شبيهاً في ضراوته الواقع ولا الحاضر ولا التاريخ.
فسورية تواجه ما يصعب مواجهته، وستبقى تواجه، وستنتصر، وسيساعد على انتصارها التغلّب على هذه التحدّيات التي هي من أصعب التحديات الداخلية الخاضعة لإملاءات الأعداء التاريخيين للشعب السوري بقيمه وأصالته وتقاليده، فعلينا أن نعيد قراءة قول الجنرال مولا في الحرب الأهلية الإسبانية: لدينا أربعة طوابير تتحرك لفتح مدريد، أما (الطابور الخامس) فسوف يتحرّك في الوقت المناسب للحصار من الداخل.
ولا ضير، بل من الضرورة، والحال هكذا أن ننظر كيف تعمل الميديا ومراكز الأبحاث والدراسات عند خصومنا من أطلسيين وصهاينة يهود أو مسيحيين – أو مسلمين اليوم للأسف – لتقديم مسوغاتٍ مقنعة لجرائمهم بحقوقنا ووجودنا كوطنيين وكعرب، وكمشرقيين أيضاً، مسوغاتٍ قائمة على الفبركات والتدليس والاجتهادات في مؤسساتهم العديدة المتنوعة الحديثة والمستحدثة والتي نظنها أنها علميةً وذات مصداقية أو أخلاقية.
إنها ليست حرية الاطلاع والتداول والنشر، وهي مضادّة للمعرفة وللوعي الوطني والأخلاقي والإنساني، بل هي من أنواع الحروب ومن أخطر أجيالها، وهي قرينة الخمول والكسل والاستسلام وغياب المحاكمة العقلية، لأنها تفضي إلى الاستسلام، وتشتيت الانتباه، ونشر الشائعات المغرضة من مصادر الأعداء.
وإذا كان المرء لا يُحاسب على حريته، فينبغي أن يُحاسب على وعيه وعمله والتزامه، ففي هكذا حروب وأزمات تتقدّم الواجبات على الحقوق، ولنا في عشرات آلاف الشهداء البررة، والجرحى الكرام، والضحايا الأبرياء.. أسوة حسنة، ودليل إلى الصبر والنصر.